حتى كادت أن تتلاشى فالأب ما إن يعود من عمله حتى ينصرف للراحة أو لمتابعة برامجه التلفزيونية المفضلة والأم تنشغل في المطبخ أو بالتسوق والأبناء منهمكون بالكمبيوتر والموبايل وغيرها من مغريات العصر الحديثة التي اقتحمت جلساتنا العائلية.. مشهد يومي يتكرر في بيوتنا التي تكاد أن تتوزع إلى بيوت منفصلة تحت سقف واحد يجمعهم ولكن كل واحد منهم في وادٍ. فما الذي جعل جلساتنا الأسرية في أيامنا هذه عملة نادرة؟..
د. برقاوي : عزلة اختيارية
عن رأي علم الاجتماع بهذا الموضوع تقول الدكتورة هناء برقاوي - مدرسة بكلية الآداب،غزت التطورات التكنولوجية حياتنا وكان لذلك منعكسات إيجابية وسلبية في آن واحد فهي قربت البعيد وفتحت لنا آفاقا تجاه العالم ولكن بعدتنا عن بعض داخل الأسرة الواحدة وزادتنا انغلاقا على أنفسنا تجاه أفراد العائلة، بمعنى أنها أثرت على العديد من االسلوكيات الاجتماعية والأنماط المعيشية وأحدثت نوعا من التغيير الحاسم في الحوار العائلي ولم يعد هناك مشاركة حميمية تلك التي تشكل أساس اللحمة العائلية والمشاركة الوجدانية وهذا أحدث خللا أسريا يدفع ثمنه الأبوان والأبناء أدى لتفاقم حدة الخلافات الزوجية المرتبطة بالأبناء حيث لاتجتمع العائلة إلا لحل مشكلة أو فض نزاع، والتواصل مع الأبناء لتفقد أحوالهم غالبا ماتكون عبر الهاتف.
ما الذي حدث إذا؟ تقول د. برقاوي: نمت «الأنا» عند كل فرد من أفراد الأسرة وأصبح كل فرد منشغلا بالبحث عن ذاته وتنوعت اهتماماتهم، وهذا أحدث نوعا من العزلة الفردية الاختيارية. فالفرد اختار أن يعزل نفسه عن محيطه الاجتماعي بشيء يقدم له من وجهة نظره الفائدة، ورغم أن التقنيات الحديثة تقدم المعلومة والفائدة ولكن بنفس الوقت أخذت أهم شيء ألا وهو التلاحم الأسري والألفة والمودة، فعملية التواصل الأسري انعدمت ولم يعد هناك تواصل مع الآخر داخل الأسرة وتحول إلى تواصل مع «الأنا» أو مع الجهاز كالانترنت أو الموبايل أو التلفزيون.
الآباء قدوة للأبناء
عن أهمية اللقاءات العائلية تقول د.برقاوي: أنها تتيح المشاركة بين أفراد الأسرة وتزرع المودة والرحمة وتعزز العلاقات بينهم، وتشيع جواً من الحميمية والتعاضد وتفسح مجالا لاستعراض المشكلات الفردية والعائلية ليتم التوصل إلى حلها بمشاركة جميع الأطراف،كما تعمل على تنقية الأجواء بين الأخوة والزوجين وتخفف من حدة التوتر والخلافات القائمة بينهم، وتفيد في التمرس في تحقيق التوازن بين الوقت العائلي والمشاغل الحياتية الأخرى وتعويد الأبناء على تغليب مصالح الأسرة بعيدا عن نطاق الأنانية، والعمل على تحقيق التواصل المستقبلي. فنحن لانريد فقط أن نعلمهم التواصل الآني، بل حتى بعد فترة استقلالهم الأسري فالآباء عندما يحرصون على زيارة الأجداد. يكونون قدوة حسنة لأبنائهم.
الأمور العائلية من الأولويات
قد يتذرع البعض بعدم توفر الوقت الكافي لهذه اللقاءات وبكثرة الالتزامات الحياتية ويكتفون في بعض الأحيان بيوم الجمعة كونه يوم العطلة ومخصصا للأسرة ولكن حتى يوم الجمعة لم يعد يجمع العائلة أحيانا لأن الأم العاملة تستغله لترميم مافاتها من أعمال منزلية. ومشكلتنا ليست بعدم توفر الوقت بل المشكلة تكمن بالانعزالية الفردية التي فرضناها على أنفسنا وبعدم القدرة على تنظيم الوقت لإحياء هذه اللقاءات فمواعيد الغداء والعشاء من الضروري التواجد خلالها وعلينا الحرص على أن تكون فترة تواصل اجتماعي وحوار أسري فلايقطعها متابعة مسلسل تلفزيوني أو مكالمات هاتفية.
إذا لابد من إحياء هذه الجلسات الأسريةولكن قد يجد الأهل صعوبة في إلزام الأبناء الذين يجرون وراء المغريات العصرية فما العمل؟.
تقول د.برقاوي : ينبغي على الآباء أن يكونوا عامل جذب لذلك باستخدام لغة الحوار بعيدا عن توجيه أصابع الاتهام واللوم والنقد المباشر وتعليمهم عملية الانصات والإصغاء للآخر واحترام وجهات النظر والابتعاد عن التسلط وفرض الآراء وأن نحاول تنظيمها لتناسب أوقاتهم،لأن التزامهم بحضورها ضروري ليتعلموا كيفية تنظيم الوقت وترتيب الأولويات بحيث تكون الأمور العائلية هي أولوية من أولوياتنا لأن أولادنا هم مخرجات أسرية وبنفس الوقت مدخلات اجتماعية للمجتمع.
وبدورنا نقول: لنعط لأنفسنا فسحة من الراحة بعيدا عن صخب الوسائل التكنولوجية الحديثة، ولنعد ولو قليلا إلى الحميمية العائلية التي تخفف من الضغوط الحياتية والتوتر والقلق وتشعرنا بالأمان والدفء النفسي فهل نستطيع ؟ ....