بعد أن ترمّد منهم الجسد فراحوا يمتطون صهوات الكلمات التي غدت بلا جدوى ويبحرون في مداد الحقيقة التي تحول طعمها إلى مرارة الحنظل، فإلى أين أراكم تبحرون أيها السابقون مأمون ضويحي..أحمد حيدر..أحمد عجاج..نزار درويش..سليم خليفة..سلمى سلمان..لمياء جنيدي..؟والآن يتوقف المركب عند خيري عبد ربه، من بين زملاء في المهنة تعرفت عليهم بعد دخولي مضمار الصحافة قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً، ووجدت أن ناظمهم المشترك خيط من نور العشق السرمدي لمهنة المتاعب التي صادرت النبض من قلوب لا تهدأ من وَجدِها ليضحوا جميعاً -قرابينها - في قافلة لا تنتهي من شهداء الحقيقة على مذبح من وفاء وصدق مع النفس أولاً ومع الآخر ثانياً..وثالثاً..وعاشراً.
لماذا أتذكرهم جميعاً مثل قناديل جمعها خيط واحد كلما نعي إلي نبأ سقوط ورقة من أوراق هذه الشجرة العاتية. (الثورة) مصنع كل فدائي جاهد بالقلم ومده حينما نفد الحبر بهدير الشرايين؟ لماذا استعجلوا الرحيل جميعاً وهم الذين كانوا يكتبون للحرية وللحياة؟
ماذا أقول اليوم في خيري المستمد اسمه من الخير والعطاء، وقد عرفته كانسان أكثر منه كصحفي أو شاعر في مجلة الغد التي استقطب فيها بداية نخبة من فرسان المهنة الذين ما ترجلوا بعد وما نكسوا رايات هزيمتهم وما زالوا إلى اليوم، كل في فلك يسبحون؟
أتراه اقتنع أخيراً أن المشروع الإعلامي العام لا يطعم خبزاً ولا يسمن أو يغني من جوع، فاتجه متفائلاً إلى مشروعه الخاص الذي أطلق عليه لقب (الغد) ليحصد بعد سنوات مرارة الهزيمة أمام كلمة لا تعرف الهدنة، وبالتالي استعصت على الخضوع لقوانين (الربح والخسارة) وتحقيق الريعية.
لأن الإنسان هو الأبقى وفي البدء كانت وما زالت للآخرة الكلمة..فكيف إذا كان حامل هذه الكلمة شاعراً احترف الصحافة فتلظى بنارها ونسي مطافىء الشعر في قاع روحه المتعبة.
كان باستمرار يقول كلما شكوت له أمراض صحافة القطاع العام في التنافس غير المشروع وانعدام كفاءة المعايير وتغير ظروف النشر: صبراً عزيزتي فغداً يصبح لكل واحد منكم مشروعه الخاص، ومن أشد المفارقات ألماً أن أجده بعد تعب سنوات ينكفىء عن مشروعه الخاص (الغد) ويعود إلى صحافة (الأمس)-(الثورة)- ليكتب في نفس الملحق الذي نأى عنه قبيل سنوات أنفقها في رعاية مشروعه الخاص.
خيري..اعذرني فأنا لا أعرف كيف أنعيك اليوم، أأنعي فيك الشاعر أو الصحفي أو الإنسان المقهور بردة حلم (غده) الذي تبدد سدى ولم يخلف فيك غير المرض العضال؟.
لك مني ألف تحية وسلام يا ميتاً لا يطيق الكفن، لك الوعد بأن أحمل من بعدك راية (الغد) الذي عبثاً لن يأتي ومشروع الحلم الذي تكسر على شواطئه منذ زمن بعيد.