وفتح النوافذ التي تتتالى عبر أيقونات قد تذهب بي بعيداً إن لم أربط نفسي بخيط واقعي ما, يمنع انفلاتي إلى اللامحدود, ولعلي تخيلت مرةً أنني تهت في مسارات الفضاء الافتراضي تلك, ولم أعرف درب العودة, فهل كنت سأدق على أبواب شاشاتكم لأجد مخرجاً, أم أنني سأطلق إنذاراً ضوئياً – s o s - عبر إحدى الأيقونات المتوفرة على أسطحة مكاتب كومبيوتراتكم؟ قد يلجأ أحدكم إلى الضغط على قائمة ابدأ, ليغلق الجهاز مرتعداً من فيروسِ جنيةٍ طلعت له من الفضاء! بل لقد تخيلت أن أحداً ما قام بعملية نسخ ولصق لي على أحد ملفاته, فبقيت محتجزة هناك! وكم خشيت فكرة أن يدفع الخوف بآخر لتحديد كلي وضغط كبسة مسح مرسلاً إياي إلى سلة المهملات الالكترونية ! والكارثة الأكبر إن قام بإفراغ كامل محتويات السلة تلك, بحيث أبقى تائهة في ذلك العالم, موجودة لكن دون وجود!
هل يمكنني أن أطبق على كل تخيلاتي تلك ( وأنا شخصياً أتنبأ بالوصول في زمن ما إلى تلك الاحتمالات, لكن سيكون للوجود شكل ومعنى مختلف عما نألفه اليوم !) إذاً هل أطبّق نظرية « أثر الفراشة» على كل تلك الخيالات, التي بدأت بفكرة, او بفعل متناهي الصغر؟ وهل يمكنني حقاً التماس ما فكر به « شوان تزو» الفيلسوف الصيني كمرجع لخيالاتي حين قال: حلمت بأنني أصبحت فراشة, وحين استيقظت, لم أكن أعرف إن كنت أنا إنساناً حلم بأنه أصبح فراشة, أم أنني فراشة حلمت بأنها أصبحت إنساناً؟! أي هل كنت فكرة تنامت داخل عقل ما- الكتروني ربما - فتخيلت أنني إنسان يفعل كل ذلك, ام كنت إنساناً حراً حقاً حشر في ذلك الصندوق العجيب؟ فهل دخلت ذلك العقل أم خرجت منه؟ وأين أنا الآن؟!
في عام 1963 ابتكر الفيزيائي الرياضي إدوارد لورينتز نظرية الفوضى أو ( الشواش ) التي تندرج تحت لوائها نظرية أثر الفراشة, والتي تفيد بأن كل الأشياء التي نراها عشوائيةً في الكون, قد تبدو مترابطةً برابط غامض يوحد بينها وبشكل غريب وسحري, ما يجعلها غير عشوائية في داخلها, أما ظاهرها فيبدو وكأنها أحداث عشوائية من أنظمة منفصلة لا تترابط! وهذا ما دعا للقول: إن رفة جناحي فراشة في الصين قد ينتج عنها فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا وأوربا أو أفريقيا!
أثر الفراشة نظرية فيزيائية وفلسفية لتفسير ظواهر الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة التي تنجم عن حدث أول قد يكون بسيطاً بحد ذاته لكنه يولد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية بحيث يفوق حجمها حجم فعل البدايات بأضعاف غير متوقعة ! في يوم من الأيام وأثناء عمل لورينتز على إدخال بيانات في الكمبيوتر لمرتين متتاليتين، لاحظ فرقاً كبيراً جداً في النتائج، وعندما حاول فهم ما جرى، وجد فرقاً عشرياً في أحد الأرقام بأقل من 0.0001 وهو ما قاد إلى فرق كبير في النتائج، وأصبح هذا الخطأ ورقة علمية قدمها عام 1972 وسماها «أثر الفراشة» .
وفقاً لتلك النظرية, سوف نتساءل ما الحدث الصغير البسيط, أو ما الفارق العشري الضئيل, أو ما الخطأ الذي حدث و أدى إلى ثورة بركان, أو غضب زلزال ؟ أو إلى تأخر نضج المحاصيل, أو تأخر الهطول المطري؟ ما الذي أدى إلى تسخين الأرض وتهديد جليدها بالذوبان؟ وبالمنطق ذاته, ما الذي حدث بالضبط حتى وصل الغرب إلى العالم الخارجي وبقينا ملتصقين بتراب القبور؟ ما الحدث البسيط المتناهي الصغر الذي وقع, فجعل الغرب ( ولا أعني بالغرب مصطلحاً سياسياً ) يتمسك بقيم العمل وتقاليده وبالصدق والوضوح, ونبقى ندور في فلك التقاعس والنفاق؟ ما الفارق العشري الصغير الذي وقع حقاً في إدخال بيانات حقبة جيولوجية ما, لتتتابع آثاره عبر الزمن وتحيلنا إلى كائنات ديناصورية مهددة بالا...؟
ما ذلك الحدث الذي أودى بنا إلى اعتماد سياسة الانتظار والاستقالة؟
لعلها الاستكانة لمقولة أن كل كائن يملك شيئين هما الفكر والجسد! يتحكم المجتمع بالفكر! وتتحكم البيولوجيا بالجسد الذي خضع لملايين السنين من التطور البيولوجي! ولعلنا تساءلنا إن كان المجتمع يحكم قبضته على فكرنا, وتتحكم البيولوجيا بأجسادنا فما عسانا نفعل؟ ربما فضلت الغالبية فعلياً الانتظار والاستقالة كطريقتين قليلتي المخاطر لصرف رصيدها الزمني المودع في مصرف الحياة, ولا أدري بأي منهما بدأنا بالانتظار أم بالاستقالة؟ فالتفاعل بينهما جدلي ولهما مسار ذو اتجاهين – ذهاب وإياب – فحين تستقيل تمضي الوقت انتظاراً! وحين تنتظر تكون قد قدمت استقالتك من دائرة الفعل, ولا يبدو أننا أنجزنا أفعالاً, ثم وقفنا باننظار نتائجها! ( هذا الكلام كله خاضع لمنطق النسبية والتناسب, والمقصود بالفعل كل ما يحرض على التغيير نحو الأفضل, وعلى تخطي المكان بتسارع نحدثه في الزمان ). إننا ننتظر مكاناًً آخر, ونقفز فوق مكان حالي موجود! نسعى إلى حياة أخرى, ونتجاهل حياة نعيشها الآن! ننتظر مخلصاً يقوم بتخليصنا مما نحن فيه, أو فادياً لأخطائنا, نجلس في المكان – الحياة على قارعة الزمن نهدر أعمارنا بالقعود كما فعل ذات ماضٍ أعرابي, مرّ به الأصمعي, وقد افترش قارعة طريق وبجواره زوجته وهو يقول: يا رب هأنا قاعد كما ترى, وزوجتي قاعدة كما ترى, وسلّتي فارغة كما ترى, فما ترى يا ربنا فيما ترى؟!
استقلنا حين قبلنا بمثل يحذرنا من النظر إلى أعلى, لأن النظر إلى ذلك الارتفاع والعلو سيؤدي إلى دق رقبتنا, ولكن كيف لنا أن نصعد إن لم نر ذاك العلو, وكيف سندرك وجوده إن لم ننظر إليه؟ وكيف ندرك قيمته أو كنهه إن لم نشتق إليه ونحلم بالوصول إليه؟ استقلنا حين قبلنا بمثل يؤكد أن راحة البال والنفس تكمن في امتلاك كنز لا يمكن له أن يفنى – القناعة – ولعلنا نظلم قائله إن فسرناه بالقبول بكل ما نحن فيه والاقتناع بما بين أيدينا دون سعي حقيقي للحصول على ما هو أفضل, بل لقد غالينا في استثمار القول حين تعلق الأمر بالفكر والعقل والاجتهاد, وارتكبنا مجزرة حقيقية بحقه حين ركضنا في دروب الحياة حين تعلق الأمر بالحصول على المال والمكاسب وكل ما قد يجعلنا أصحاب سلطة ما!
لقد أثار ذلك الفارق العشري في إدخال البيانات والنتائج غير المعقولة فكر إدوارد لورينتز وعقله, وبعد حين من الدراسة والبحث وضع نظريته الشهيرة المسماة «الفوضى المسيّرة»، التي أدت إلى أهم تغيير في نظرة الإنسان إلى الطبيعة منذ عصر إسحاق نيوتن, كما قيل والتي نال عنها جائزة العلوم الأساسية عام 1991, فلماذا لا تحركنا الفوارق الكارثية في البيانات والنتائج خاصتنا؟ لماذا يحسبون أثر الفراشة كما وصفه محمود درويش ( أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول ) ؟ ولا يوقظنا أثر العنقاوات اللواتي يسرحن في مجالنا العقلي والفكري والحياتي و..و.....؟ ألأن الفراشات تلعب دوراً في تلقيح الأزهار التي تحمل أحلاماً تتفتح؟ ألأنها قادرة على التخصيب وبث الحياة حيث تقف؟ ألأن العنقاوات مخلوقات خرافية غير موجودة إلا في تحديد حجم نومنا؟! لكن.. قيل إن العنقاء هو طائر الفينيق القادر على الانبعاث من الرماد رغم احتراقه, فلماذا صدقنا الخرافات ونسينا الحلم؟
ونحن على قيد الانتظار والاستقالة, لا تصدقوا أننا نقف مكتوفي الأيدي, مطلقاً لسنا نفعل! إننا وبكل بساطة غارقين في عملية تبدو أبدية... إنها عملية تبرع بالدم مستمرة منذ أجيال لإنقاذ كل أمواتنا غير القادرين على الحياة بعد, عبر توصيل شرايينهم بشراييننا الكبرى وضخ الدم في عروق ميتة لانبض يرتجى فيها! فهل نحن أناس حلموا بأنهم تحولوا إلى ديناصورات؟ أم أننا ديناصورات حلمت بأنها تحولت إلى ( نحن ) ؟!