وخاصة تلك الدراسات التي تندرج ضمن المسموع (الموسيقا ) من تاريخ البشرية، أو تاريخ الغناء والموسيقا عند الإنسان لأنها من البحوث التي تبدو قليلة المصادر والمراجع، لكن ومع تطور العلوم وتعدد مناهج البحث في العلوم الإنسانية(علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والأركولوجيا) تمكنت تلك العلوم من اكتشاف تفاصيل تاريخ الإنسان القديم بما فيها تاريخه في عصور ما قبل التاريخ ،عباداته وسلوكه وطرق عيشه ، ما مهد للعلوم التاريخية أن تستنتج من خلال وقائع آثارية بعض الآلات والرسوم التي تشير إلى حركة الرقص والعزف والغناء، وهي الآثار الأولى للآلات الموسيقية التي كان الإنسان القديم يغني بمرافقتها،ولكن (السؤال عن نشأة فن الموسيقا يشبه إلى حد كبير السؤال عن أول رجل ضحك، أو أول رجل بكى).
من هذا المحور يمكننا أن نقرأ ما قدمه الدكتور علي القيم في كتابه الأبجدية الموسيقية والذي يرصد بشكل دقيق اللحظات الأولى لإبداع إنسان ماقبل العصور الموسيقية والغنائية في ضوء المكتشفات الأثرية، والكتاب هو عبارة عن دراسة تاريخية للبواكير الأولى للموسيقا الإنسانية التي ترتكز على عدد من المناهج والعلوم الإنسانية لتكشف للقارئ نماذج موسيقية وغنائية لإنسان ماقبل التاريخ وإنسان الحضارات القديمة من خلال ماتوصلت إليه العلوم الأركولوجية (الآثارية) وربطها مع الطقوس الدينية (الرقص والأناشيد والتراتيل)، إذ تتناول هذه الدراسة دور الموسيقا في حضارتنا القديمة والتي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، وأنها كانت الأصل الذي تطورت منه موسيقا شعوب العالم، وأصبحت تشكل فيما بعد تراث الإنسانية، وبذلك يجمع علي القيم في هذا الكتاب خبرته وتواصله مع الاكتشافات الأثرية والعلوم الإنسانية ليفتح لنا نافذة نطل عبرها على الفن في الحضارات القديمة (الموسيقا وآلاتها) والغناء والرقص والشعر، وهو يذهب ليوضح لنا (ألفباء الموسيقا) عند السومريين والآراميين والكنعانيين وغيرهم.
يبدأ علي القيم كتابه في الحديث عن الغناء والشعر عند الشعوب البدائية مستعرضاً عددا من الآلات الوترية, ويقسم الغناء عند تلك الشعوب (إلى غناء ديني وغناء دنيوي، يتجه الأول إلى الآلهة والأرواح ويلتزم بأن يحقق هدفاً سامياً. أما الثاني فيعالج مشكلات إنسانية ولايتطلع إلى ماهو أكثر من ذلك، ومما لاشك فيه أن النوعين يتداخلان أحدهما في الآخر ليصبح من غير الممكن أن نقول إلى أي تصنيف منهما ينتسب غناء محدد...)ص30، ويربط بين الغناء والطقوس الدينية على أنها من أساسيات المعتقد وطرقه، ثم ينتقل عبر عدد من الدراسات إلى أهم الأشكال الموسيقية البدائية لإنسان الحضارات القديمة، ويتناول موضوع التدوين الموسيقي وتاريخيه عبر أنشودة العبادة الأوغاريتية، إذ إن السلم الموسيقي (هو الدعامة الأساسية التي بنيت عليها الموسيقا والذي يتوقف على قوة بنائه سيرها المتطور رقياً وتقدماً) ص53، الذي يبين المؤلف تاريخية اكتشافه منذ بدايته عند اليونايين (السلم الموسيقي الفيثاغورثي (سنة 500 ق. م)، إلى تطوراته التي وصلت إليه في عصرنا ويرى أن ( المكتشفات الأثرية الحديثة التي تمت في كثير من مواقع حضاراتنا القديمة في بلاد الشام ومابين النهرين ووادي النيل، قد غيرت الكثير من المفاهيم القديمة) فأثبتت أن السلم الموسيقي الأوغاريتي أقدم بأكثر من ألف عام من السلم الموسيقي اليوناني.
ثم ينتقل في الكتاب إلى تصنيف الآلات الموسيقية إلى ثلاثة أنواع ؛ الآلات الإيقاعية (النقر) (الطبول ، الدفوف ، الصنوج) والآلات النفخية الهوائية ( الناي ـ المزمار (الناي المزدوج) البوق (القرن) والآلات الوترية ذات القوس الكمان (الربابة) وذات الأوتار (العود ، الهارب (الجنك) ـ الكنّارة ، القانون ، السنطور (السنطير). ويبدو من خلال سرد هذه الأنواع من الآلات أن الكنّارة هي من أقدم الآلات الموسيقية إذ تشير الاكتشافات إلى أن أول ظهور لها بحدود (2700 ق.م) وهي سومرية الأصل.
وينهي القيم كتابه بمجموعة من الدراسات تؤكد أهمية الأغنية الشعبية في الحفاظ على ثقافة المجتمع وحضارته. أضف إلى ذلك فإنه يقدم رؤية حول مستقبل الموسيقا العربية ومسرحها الغنائي ويدعم ذلك بآراء عدد من النقاد والباحثين الموسيقيين.
الكتاب: الأبجدية الموسيقية - المؤلف: د. علي القيم - دار إنانا للطباعة والنشر، دمشق 2008.