لا لأنه يستحق هذا النجاح حاشا وكلا- بل لأنهم قرروا فجأة تنظيف الصف الأول مما علق به من أدران وأوساخ وعقد مستعصية، فكنسوه إلى الثاني، ووقتها فرح الشيخ عبد الله معلم الصف الأول فرحاً شديداً لأن القدر الذي ابتلاه بخالد هو نفسه كان رحيماً به، وهذا يعني صحة الدعاء، الذي يقول: اللهم إني لاأسألك رد القضاء، بل أسألك اللطف فيه!
وقد لفق الخبثاء على هذه السالفة أحاديث ذكية جداً، منها قولهم إن الشيخ عبد الله فتح في بيته استقبالاً تلقى فيه التهاني بالخلاص من بدن خالد، ومن كان مسافراً خارج البلدة ولم تساعده ظروفه على تهنئته في البيت أرسل إليه برقية (تلغراف) يهنئه فيها بالخلاص منه، مختتماً برقيته بعبارة:
العقبى ليوم أن تخلص منه المدرسة عما قريب، آمين!
وعلى مايبدو فإن طارشاً من هذه الأحاديث المتهكمة قد بلغ مسمع أخينا المنكوب أبي خالد، فذهب إلى البيت وقال لامرأته بلهجة متوسلة.
دعينا نبطله من المدرسة ونرسله لتعلم مهنة يعيش منها في المستقبل، وفي الوقت نفسه نخلي المكان في المدرسة للأولاد الذين تحتوي قرعات رؤوسهم على عقول طبيعية!
فشهقت أم خالد وقالت:
لاوالذي اسمه على الماء جمد، لن أبطله من المدرسة، يارجل، مابك؟ أتقول لي هذا الكلام بعدما نظر الله تعالى في وجهه وجعله يترفع إلى الصف الثاني؟ حرام أن نقطع نصيبه من العلم!
ههنا غضب أبو خالد غضباً شديداً والتفت إلى خالد وقال له:
اسمع ياخالد، ياغبي، يا (طشم)، يامن أصبح عمرك خمس عشرة سنة وحتى الآن لم أر فمك إلا مفتوحاً مثل باب المغامرة! هذه السنة سأسمح لك أن تبقى في المدرسة إكراماً لأمك هذه الإنسانة الصابرة التي تحبك رغم أنه لا يوجد في البلد كلها أحد يحبك، وهي متأملة منك أن تتعلم وتصير رجلاً مثل الخلق، مع أن تعليمك يشبه إدخال الحطب اليابس ضمن قطرميز البلور! وسأنتظر حتى نهاية العام الدراسي وتوزيع الجلاءات، فإذا رسبت في الصف الثاني، والله العظيم الباري المقيم سأحفر جورة عمقها متر أمام باب المنزل، وأرميك في داخلها وأهيل عليك التراب!
أحست السيدة أم خالد بالعطب، وندمت أشد الندم لأنها أصرت على تعليم خالد، وأيقنت في سرها، أن هذه السنة لن تمر على خير، الشيء الطبيعي هو أن يرسب خالد في الصف الثاني، ولاسيما أنه رسب في الأول بضع سنوات، وشرعت المسكينة تصل النهار بالليل وهي تصلي وتتعبد وتتضرع إلى الله أن ينجح خالد إلى الصف الثالث، وبذلك تنفض المشكلة على خير، ولا يحنث الأب بيمينه، ولا يطمر خالداً في الجورة.
وهي لم تكتف بالدعاء، بل وضعت ثقلها كله في سبيل الوصول إلى حل لهذه المشكلة، فذهبت إلى المدرسة، وأوصت المعلم بخالد خيراً، ورجته أن يعيد له ما يستعصي عليه من الأفكار أكثر من مرة، وأن يسأله ويحاوره فيها، أضف إلى ذلك أنها رجت الفتى ابراهيم ابن الجارة أم ابراهيم أن يشاركه في مراجعة الدروس.
ومضت الأيام والشهور، وحان وقت توزيع الجلاءات المدرسية، وذهب خالد لإحضار الجلاء، بينما سارع أبوه إلى إحضار الرفش والمجرفة، وشرع يحفر الجورة التي وعد خالداً أن يطمره فيها إن هو رسب، وتجمع الناس عند الباب ليتفرجوا على هذا الحدث الغريب من نوعه، وأخذت أعينهم تتعلق بنهاية الزقاق، حيث بدأ التلاميذ المجتهدون يتوافدون قادمين من طرف المدرسة وهم يرفعون الجلاءات إلى الأعلى كرايات النصر وهم يهتفون (نجحنا) ثم ظهر الكسالى الراسبون يمشون ببطء وقد لووا رقابهم تعبيراً عن إحساسهم بالذنب.
أخيراً وصل خالد وهج النار وهو يحمل جلاءه بيده ويقول لأبيه: يا أبي أبشر، انفدى يمينك.
قال الأب: نجحت؟
قال: لا.
قال: رسبت؟
قال: لا.
قال: فكيف انفدى يميني ولاك؟
قال خالد: أنت حلفت لي أن تطمرني في الجورة إن أنا رسبت، وأنا لم أرسب، بل أعادوني إلى الصف الأول.