من التجسيد التفصيلي لمعطيات الواقع والتراث الحضاري في منطقة الفرات، إلى التعبيرية المبسطة وحوارية الايقاع الاختزالي، التي يضفيها على العناصر وصولاُ إلى التجريد اللوني، فهو التنقل هنا بين تشكيل عقلاني محض، وبين تلوين عفوي وتلقائي وارتجالي صرف, وهو التحول بين الاداء العقلاني الهادئ والمدروس والمركز, وبين الارتجال التلقائي في لوحات أخرى, وبداية نشير إلى أنه تعرض لفجيعة باستشهاد ابنته فاطمة عام 2014 بساحة الامويين, متأثرة بأصابتها بقذائف الغدر والتخلف, ولقد رثاها بمعرض قدمه تحية لروحها الطاهرة.
نحت كلاسيكي
وفي جلسات عمله الطويلة في مجال نحت القطع الحجرية الكبيرة (بارتفاع أكثر من مترين أحياناً) يحافظ على منهجية صياغة المنحوتة الكلاسيكية المنضبطة والمدروسة بعناية مركزة على الصعيدين الاسلوبي والتقني،وتبدو لمساته في هذه المجموعة، من منحوتاته ولوحاته، عقلانية إلى أبعد الحدود, لأنها قائمة على الصبر والتأني والجلد الطويل في التشكيل الفراغي والتلوين معاً، من خلال الاعتماد على الدقة والدراية, مع إعطاء أهمية للبعد الثالث, حيث نجد الصرامة في إبراز العناصر التشكيلية والتلوينية والتفاصيل الصغيرة والدقيقة، فكل تفصيل أو لمسة مدروسة بعناية, وهي بالتالي تعكس أجواء التكوين المتماسك والمتوازن والمدروس،وهو يستعيد من خلالها ملامح أو روح التاريخ الحضاري, ضمن صياغة تقنية مركزة، ومنضبطة.
ومواضيعه في هذه المجموعة ترتكز على الواقع الشرقي بفلكلوره وروحانيته البارزة والكامنة في التأليفات النسائية والطفولية والوجوه, وهذا يعني إنه في منحوتات ولوحات هذه المجموعة، لا يبتعد عن روحانية الشرق, التي تركت بصمات واضحة على أعماله الكلاسيكية والحديثة, فظهرت عنده دلالات التراث الاسطوري القادم من عمق الزمن الغابر في شرقنا العربي، كما يرسم الإيقونات ضمن لمسات هادئة، تحمل ملامح من الاتجاهات الفنية الغربية والشرقية، والهاجس الروحاني لم يغب أيضاً عن هذه المجموعة، كونه في هذه اللوحات يتعامل مع الحس الروحاني, وبذلك فهو يحرك العناصرالتشكيلية، في هذه المجموعة، بعيدا عن الانفعال, ويقيم حواراً بصرياً عقلانيا في اللوحة والمنحوتة معاً.
على طرفي نقيض
في مجموعة أخرى من أعماله يستخدم الفراتي جمعة الناشف الأسلوب العفوي التعبيري والتجريدي مروراً بكل المدارس والاتجاهات التشكيلية, التي تصارعت في الشرق والغرب، على مدى القرن الماضي والحالي، ويظهر هدا التنقل في تأليف اللوحة والمنحوتة معاً, وهو في تنقلاته, من أقصى درجات الدقة في النحت والرسم الكلاسيكي والواقعي، إلى أقصى حالات التجريد, يقف على طرفي نقيض، وخاصة حين يرتكز في بعض أعماله على حركة عاطفية وتطلع ذاتي في بناء اللوحة والمنحوتة الحديثة. وتبدو مخيلته اللونية فيها متجهة بقوة لإيجاد علاقات جمالية مغايرة للأولى وبعيدة عنها، لما تحتويه من عفوية في حركة التلوين واللمسات اللونية التلقائية، وهذه الرؤية المتحررة، للتشكيل والتلوين، التي يعالج بها مواضيعه واشكاله الإنسانية والوجوه وغيرها، تبدو مغايرة ومعاكسة لأسلوب مجموعته الأولى، ويبدو في هذه الاعمال، راغباً بالعودة إلى ذاته، إلى العفوية التي تقربه من العصر، فالتكوين التبسيطي الذي يعتمده، هو لغة وثقافة حديثة لفن الواقع، وهو الأكثر عفوية وتلقائية وغنائية.
ويركز الفراتي جمعة الناشف لإظهار الحركات الخطية التي تتوافق والحضور اللوني العفوي، المكثف في اللوحة، بحيث تتداخل الخطوط اللونية والمساحات التشكيلية بتلقائية شديدة العفوية وباندفاع عاطفي ووجداني, بعيد كل البعد عن أي صيغة كلاسيكية أو حتى هندسية (بمعنى الهندسة المستوية أو الفراغية المحكومة بمعادلات وأرقام رياضية).
لوحات كنسية
هكذا يتجه في بعض أعماله نحو الاختصار والاختزال, وإذا كانت تقنية الأولى تساهم في استعادة أجواء الفنون القديمة، الشرقية والغربية, فإن تقنيته الثانية لها خاصيتها في إضفاء الكثافة والغنائية عبر تركيب اللمسات والحركات اللونية، وفي هذه الحالة، ينطلق من مشاعر تلقائية وغنائية ووجدانية، فيقدم العناصر بعفوية تصل الى حدود الحركات اللونية المنفعلة في أحيان كثيرة.
ولقد أنجز لوحات جدارية بانورامية بمساحات بانورامية تتجاوز حدود الستة عشر متراً، كما نفذ العديد من الإيقونات واللوحات الكنسية, الجدارية والخشبية، وأقام عدة معارض فردية, كان آخرها في زحلة وبيروت، إضافة لمشاركاته في العديد من المعارض. والواقع ان الفراتي جمعة الناشف، يتميز بغزارة الإنتاح، وبتنوع المواضيع والتقنيات والأساليب والاتجاهات، وهذه المقالة يمكن أن تشكل مدخلاً لقراءات ودراسات أوسع في المستقبل، حول تجربته الفنية الطويلة والغنية والمتشعبة والتي تحمل مناخية خاصة به, رغم هذا التنوع والتنقل بين المدارس والتيارات والتقنيات، من الكلاسيك إلى التشكيل الحديث المفعم بالحيوية والجرأة والحداثة.
facebook.com adib.makhzoum