وإذا تركنا جمهور الرياضة يصرخ ويشجع ويغضب وينزل للشارع معبراً عن فرحه أو حزنه ربحاً أو خسارة مع هذا الفريق الرياضي أو ذاك، ومعه أيضاً تركنا جمهور الطرب يطرب وينتظر أغاني مطربيه فإنه يعنينا هنا جمهور الثقافة، وتحديداً جمهور المراكز الثقافية والجمعيات الثقافية الأهلية.
وطبعاً هذا الحديث كتبت فيه تحقيقات ومقالات وعقدت ندوات للبحث عن أسباب عزوف أو عدم عزوف هذا الجمهور عن النشاط أو ذاك، وقال كثر مبررين غياب الجمهور بأن من حضر كان جمهوراً نوعياً! بينما الجمهور نفسه يأتي إلى نشاطات معينة، وفي كثير من الأحيان يأتي بأعداد كبيرة من أجل حضور نشاط ثقافي معين ولأسماء محددة.
أعتقد أن هذا الموضوع يحتمل النقاش في أكثر من باب، فإحدى أهم المعضلات أننا لم نهتم أبداً بهذا الجمهور، وذلك عندما حشونا جداولنا الثقافية بأي عناوين، فالمهم عند المرشد الثقافي أن يملأ جداوله الشهرية بعناوين من أجل أن يظهر أمام إدارته أنه يعمل، ومع هذا التوجه الكمي البيروقراطي، نسينا أهم ما في القصة وهي موضوع النشاط وقيمته الثقافية والفكرية، ونسينا أيضاً أننا في الثقافة أمام أفراد متميزين متعلمين وبعضهم مبدع، يعرفون لماذا يحضرون هذا النشاط، ويغيبون عن آخر.. أي أننا أمام مفهوم آخر للجمهور غير المفهوم المتداول والمعروف، هنا الجمهور مجموعة عقول تسمع وتناقش وتحلل وتنقد وتفكك كل ما طرح ضمن قواعد النقد الفكري.
وحتى يحضر هذا الجمهور إلى صالات المحاضرات في الجمعيات والمراكز لابد أن توفر له بيئة إدارية مناسبة تستقبله بابتسامة على الأقل وترحيب فعلي، وتفسح له النقاش بعد انتهاء النشاط، من هنا مثلاً لا يمكن لأي مدير بيروقراطي أن يتعامل مع الثقافة والمثقفين من خلال ربطة عنق وعقل لا يرى في الثقافة سوى خطابات منفلوطية عفا عليها الزمن.
وضمن السياق، علينا أن لا ننسى أن جيل الشباب لابد من استقطابه وهذه تحتاج إلى روح ثقافية تفهم متغيرات العصر التقنية والثقافية، فهذا الجيل الذكي الذي قد نتعامل معه أحياناً بوصائية غير مبررة هو بالضرورة أذكى من جيل الآباء.. وما نعتقد هو الصحّ قد لا يراه هو كذلك، وهنا المعضلة مع هذا الجمهور التي لم تحلّ بعد، فكيف تستقطبه لنشاط يعرف هو سلفاً أنه غير مهم، و إذا حضر نشاطاً لا تتيح له فرصة الحوار الجدي والعميق.
نحن ثقافياً بحاجة لإدارات ثقافية تتعامل مع الثقافة بمسؤولية وحبّ، فالإدارات التي تعجز عن التواصل مع الشباب هي نفسها تعجز عن التواصل مع وسائل الإعلام والإعلاميين، وتعتقد أنهم مسجلات كاسيت فقط.
ودعاية النشاط ليست فقط إعلاناً نكتبه على عجل ونتركه في نافذة النشاطات الحديدية، الدعاية تواصل وتفاعل مع الجمهور الثقافي، ورصد لأهم متطلباته الفكرية، حيث تفرز الحياة يومياً عشرات العناوين الممكن مناقشتها من خلال المراكز الثقافية والجمعيات الثقافية الأهلية.
ثم علينا أن نتحمل أي رأي يقال في أي نشاط، ونتحمل أقسى الآراء، فالثقافة تحتاج إلى مثقف يخلقها ويتفاعل مع متغيراتها، لا يمكن لجاهل أو إداري أن يقود أي مؤسسة ثقافية، رغم كل الدخان الذي يشعله حول نشاطاته.
ثم هل خطر في بالنا أن نزود صالات مراكزنا بأجهزة إسقاط ضوئي ليستخدمها المحاضر في الشرح مثلاً؟ وهل خطر في بال وزارة الثقافة مثلاً أن ترفع من قيمة المكافأة المالية التي تعطى للكاتب، فمن غير المعقول أن تعطى حتى اللحظة فرنكات كمكافأة لكاتب قدم من محافظة أخرى؟
وبعد: النشاط الغني والمهم تأتي إليه الناس، وإذا لم يكن عندكم نشاط هام يكفي أن تكون مكتبات مراكزكم التي تحتوي على آلاف الكتب في خدمة القراء؟