وهذا السؤال الذي تأتي الإجابات عليه, متواترة في ما تشهده من مذكرات وسير ذاتية واعترافات, وربما كخلفية لكثير من الروايات التي تتكىء على واقع.. أو وقائع في سردها بأكثر مما يهبه إياها الخيال, وفي حبكة أحداثها.. بأكثر مما تحيله هبكة اللغة وانفتاح مجازاتها.
أغاثا كريستي, رائدة الأدب البوليسي, بل رائدة الألغاز البوليسية أيضاً, المادة الدسمة لخيال السينمائيين الأوربيين, بتلك المفارقات (السيكولوجية)لبطل رواياتها (السيد بوارو) كما في القاتل الخفي وغيرها.. تروي عيشها في سورية (في الثلاثينات والأربعينات) من القرن الماضي من خلال رحلتها مع زوجها عالم الآثار مالكس, الذي ترأس البعثة الانكليزية للتنقيب عن الحضارات القديمة في سورية والعراق..
تكتسب أهمية كتابها (هكذا عشت في سورية) من التفاتها ليس لفسيفساء المجتمع السوري, لا سيما في شاغربازار وتل براك وتل أبيض في الجزيرة السورية, فحسب بل لمنظومة العادات والتقاليد وطرائق العيش و التفكير, لترصد تفاصيل يغلب عليها الالتباس, خارج الحفريات والاكتشافات, كأنما ثمة ما يجاور ذلك في طباع ونفوس تجد ما يحفزها لتنتهي إلى رواية مفارقة لرواياتها البوليسية, بدءاً من استعدادها للرحلة إلى سورية عنايتها بالوقت (لأن الصحراء لا ترأف بالساعات) والتفاتها إلى تفاصيل قد تبدو مهمة لعالم الآثار كالتحزيم, تحزيم الكتب, ووصف المدن التي قطعتها الرحلة (كأستنبول)وحلب وبيروت, حيث الاستكشاف التمهيدي لمنطقة (الجغجغ والخابور).
ولعل فلسفة (الاقتناص ) ستحملها على أن تتأمل, لشحن طقس الرحلة متعة وإثارة ذات شبة (بولسية).. ماذا يحدث لو أن امرأ دخل الحمام وبدأت الحنفيات بضخ المياه الشديدة السخونة في حمام حديث ثم أغلق الباب بالمزلاج واستعصى على الانفتاح?.
وقلما تنجو الأماكن من تعليق أو انطباع , كتدمر مثلاً قطعة الزبدة الجميلة بين الرمال الحارة.. عالم من الأخيلة والتصورات الرائعة.. وهكذا يبتدىء اكتشاف كريستي للخابور, الميادين وتل حلف- خلال الرحلة- بل سورية باسمها المشوب بالقدسية, تسأل زوجها: أهي فلسطين?
أغاثا كريستي جاءت لتعاين أين أشرقت شمس الحضارات الأولى, تجوس بنظرها فوق التلال المشرفة على ضفاف الخابور إنها الجزء الآهل بالسكان منذ خمسة آلاف سنة, لماذا كانت التلال تجذبها (حمدون. موزان, شاغر بازار)?!
ثمة فرضية هو أن إحداها (حمدون) لم يحتله أحد منذ خمسة عشر قرناً قبل الميلاد, باستثناء بعض المسترسبات الجيولوجية من القبور الرومانية والإسلامية.. فضلاً عن وصفها للعمال بخفة الدم والظرافة و العفوبة ووصف نساء الجزيرة, التباين في الطباع وأنماط الحياة والتصورات الاجتماعية, وصف لا يخلو كذلك من رهافة وحساسية وتعاطف موضوعية لافتة , ينسحب ذلك على وصفها للعمال وسردها لمفارقات حياتية وإنسانية, أبطال حقيقيون لرواية مختلفة للقدر والمصادفات امتياز التأليف!, كريستي هنا شاهدة تدون الوقائع الموت/ الحياة..
كحادثة رحلة الرجل الميت (عبد الله حميد), تراها كريستي أشبه بالملاحم الشعرية بشيء من التشويق تنسج أغاثا كريستي حكاياتها عن الناس أفكار وطبقات في خطوط سردية تتعامد مع خطوط السفر والرحلة في اتجاهاتها المختلفة وأماكنها المتعددة, كأن الحفر يأتي متوازياً في الأرض, وفي حيوات حقيقية, تفصح الحوارات اللاحقة عن تراجيدية يلتقطها حس الروائية, مثل الحوار مع المهندس ماك الشديد التماهي بالتماثيل واللقى الأثرية, يقول ماك:
(الناس يموتون هناك ويشعر المرء أن ذلك ليس ذا خطر كبير ولا أتوقع أن أحداً سيقف من أجلي, ماك بغرابة أطواره يفعل الكثير من أجل حصان ملقى على حافة الطريق, لكنه من أجل رجل ملقى.. سيتابع سيره ولن يتوقف!
تمضي الرحلة ما بين الحسكة والقامشلي إلى تل براك, بمفاجآتها, مصير العمال الذين يقعون ضحايا (الخيانة والطمع والجهل) ومن براك إلى البليخ, ثمة ما يروى (قصة التغرير بعذراء القرية) في إشارات تحمل الكثير من المغزى الأخلاقي أو الفكري تندب الروائية حظها بأنها لم تتعلم العربية أن تتقنها كما يجب, لكانت نجحت في تفسير أكثر الحوادث غرابة, لماذا ينسى الناس الموت بسرعة ويعودون لأعمالهم وكأن شيئاً لم يكن?
لكنها لم تنس أروع حياة عاشتها, وهي تودع سورية وتتذكر عامودة والنجار الذي صنع لها كرسياً, والحصان الجميل والقط المحترف, وماك بوجهه الضئيل ونساء شاغر والشيخ الجليل بهيئته المهيبة.. والكولونيل الذي اعتقد العمال بأنه طبيب, والتل الصغير المغطى بأزهار الأذريون الذهبي, لعله يختزن سر الشرق وسحره الذي يحاور الغرب بأبجديته.. عندما يطأ خيال الروائيين أرضاً حقيقية, وعندما يكون الذهب ومن يبحثون عنه, شيء آخر سوى ما في أذهانهم..
مذكرات كريستي, شهادة في مرحلة وتاريخ وسيكلوجية بشر, لا تخلو من المعرفة والدهشة والالتباس.
الكتاب: هكذا عشت في سورية. - الكاتبة: أغاثا كريستي. - ترجمة: توفيق الحسيني. - الطبعة الأولى .2007 - الناشر: دار الزمان -دمشق.