تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الإيّاب

الملحق الثقافي
5-3-2013م
قصّة: د. شادي عمار:الحمائم البيض تحلّقُ فوقَ جنازتي، في موكبٍ أبيضَ أيضاً وفتياتٍ صغيرات يبتسمن بخجل مع باقات الريحان، أقول الحلمَ لأمّي فتهلع!! وتنهرني غاضبةً، ينبّهها أبي ألا تزجرَني ويناديني بعذوبة.

-»مليحة».. خُذي المزهرَ وانتقي مكاناً في الحديقة نجلسُ فيه.‏

أجري أمامهُ جذلة! قامةٌ عالية لوجهٍ صافٍ بعينين زرقاوين عميقتين وفودَين شائبين قليلاً، فهمتُ لِمَ سُمّيَ «يوسُفَ الأشقر»، ولمَ هَرَبَ إلى «مرسين» وقد راودَتهُ زوجُ الآغا.‏

-سجنتني في قلعةِ «المرقب» بالتواطؤ مع العسكر العصمليّ، أيامَ كنتُ أعملُ مرابعاً في حقولِ الآغا الشاسعة! هيا يا بنتي.. غنّي.‏

يعلو صوتي بالغناء.. أرى تحليقاً شائقاً للعينين الزرقاوين، وإخوتي متحلّقين يرقصونَ ويهزجون حتّى لمحتُهُ ذات يوم ربيعيٍّ جميل. يمشي بحياء لكن بثقة إلى جانب والدي، بدا نسخةً مصغّرةً قليلاً عنهُ نحيلَ العودِ متوسّطَ القدّ، بيد أنَّ نظراته إذا شاء له التمعّنُ تنفذُ إلى الشّغاف تُحرقُ، وتنتفضُ بي غلواءَ وحمّى تُقلقُ أمّي كثيراً، ولعلّها فطنت إلى المصيبة القادمة!‏

-اسمع.. زَوِّجْ ابنَ أخيكَ هذا من «فَطمة»‏

-ولمَ العجلة؟‏

-»مليحة» مغرمةٌ به.‏

-ماذا؟ من يبغَى زواج «مليحة» سأفقأ عينيه، أرسلي وراءَ هذا الوغد!‏

أبي.. يا أبي ما هذه الغضبة؟ أنتَ أول من مدحَه، لمّا عنَّت لك زيارة مرابعِ الطفولةِ في الريفِ السوريّ، وجدْتَ بيوتاً بائسة من لِبنٍ ووجوهاً من شقاء، إلا منزلاً من حجر يقفُ على شرفته رجلٌ بملابسَ إفرنجيّة، عرفتَهُ على الفور من وثيق الشبه بينكُما في كُلّ شيء.. «عليٌّ» غامرَ كما غامرْتَ، ذهبَ إلى «لبنان» وهو ابن تسعٍ إثر مشّادةٍ مع أخيه الأكبر الذي سامهُ العذاب في الفلاحةِ والسّباب، وظلّ هناك حتّى عادَ مرتّباً أنيقاً كآغا، جميلاً بعينيك الزرقاوين نفسهما.‏

-اسمع عليّ.. ابنةُ أختِ زوجتي «فطمة» امرأةٌ صالحة أنوي تزويجكَ بها وإلا عُدتَ من حيثُ أتيت.‏

كانَ الأمرُ قاسياً عليّ وفاجعاً! «عليّ» لم ينبَس. رجولتهُ الطافحة تمنعه من التذمّر أو الشكوى، معتدّاً بنفسه لدرجةٍ أنه جال في أسواق «مرسين» رغم تحذير والدي له، وهناك وعلى تلّةٍ شهيرةٍ بـ «تلّة الثعبان» بزغتَ أفعى مهولة! كان لها مواقيتُ محدّدة تطلّ فيها برأسها كمطربٍ يُحيِّي جمهوره اللاهف، سمعَ العويل.. استطلع.. رآها تستفزُّه بنظراتٍ ثاقبة، تمسّكت يدهُ بـ «بعتوره» قليلاً ليطوّحَ به من فوقِ الجموعِ صاعداً إلى مقتل الأفعى، ووصلَ الخبرُ إلى والدي من مُهلّلينَ بقدرة الغريبِ على تخليصِ المدينة من إحدى منغّصاتها، كتمَ سروره وهرع بسيماء ملتهبة ليمسكه من طرف ثوبه ويقوده حانقاً إلى المنزل.‏

-ألم أقل لكَ ألاّ تخرجَ في العلن، لم تكتمل أوراق إقامتك بعد.‏

مرّتِ الأيام والمزهرُ حزينٌ بينَ يديّ، وأرى عينَيه في عينَي أبي، فيشجو صوتي ويرقَّ لحني، لينغمسَ والدي في شرودٍ عميق، وأنا في سكينةٍ من دمعٍ وذكرى.‏

أنجبَ من «فطمة» صبيّينِ وفتاة أحرقتني ضحكاتهما مزيداً، لكنّ «عليّ» بعد أن تعلّمَ التركيّة جيداً كتبَ لي رسالةَ النجاةِ من بؤسي!!‏

حزمتُ متاعاً قليلاً واستدرتُ لآخر مرّةٍ أودّعُ القصرَ المهيب، لم يلتفتْ هوَ. بل ثابرَ في خطوه السّريع متوقّفاً للحظات كي يحثَّني على اللحاق به.‏

تحلّلتُ أخيراً من تشبّثٍ لذكرياتِ الطفولة وعبراتَ لابدّ ستسفحها أمّي، وقهراً سيغلُّ في ضلوعِ والدي، ومع شروق شمسِ هذا النهار جفّت دمعتي الأخيرة، في مستراحٍ متواضعٍ على طريقٍ طويل، مشيناه وحملني كلّما جاوزنا نهراً، حتّى وصلنا الحدود السوريّة وعلماً بريطانياً يخفقُ فوق إحدى الخيام العسكريّة المنتشرة بضراوة!.‏

ضحكَ الضابطُ البريطاني من «عليّ» وقتَ أخبره باجتيازِ سبعة أنهرٍ!‏

-أتدري أنّهم نهرٌ واحدٌ يا صديقي!؟‏

وغضّ عنّا الطّرف بعد أن استولى على ما بحوزتنا من حليٍّ ونقود، لم أشعرْ بتمدّد الطريق أو الخشيةِ الباردة لصوتِ الضواريّ، فـ «عليٌّ» بحدّ ذاته كانَ مخيفاً ينشرُ هيبته حيثما حلّ، ومرّةً اعترضَت طريقنا الضّبعة.‏

تَبِعْتُهُ بجنونٍ!! وأقدّرُ لو عاد بي الزّمن كنتُ عاودتُ الرحيلَ معه. ووقتَ خُضنا في الوادي كثيفِ الأجماتِ ليلاً بلامبالاة وبكلماتَ قليلة قال..‏

-انتبهي... ثمَّ وحشٌ يتبعنا.‏

-...‏

-خدّي باردٌ من الجهةِ اليسرى.. الوحشُ يكمنُ هناك.‏

لم يُكمل حتّى ظهرَت يسارَنا تلهث لتختفي من جديد، تابعْنا المسير وهو يجذبني ناحيةَ اليمين تارةً وتارةً ناحيةَ الشّمال معتمداً على برودةِ أحدِ الخدّين، لم يدقَّ قلبي بعنفٍ. كنتُ مستسلمةً بحبور لجبروته الهائل الذي لا يقفُ في وجهه شيء!! حتّى اعترضَت طريقنا بوقاحة تعوي وتدمدم، وفي هذا الليل البهيم لم تكُن سوى بقعتين حمراوين لامعتين واحتدامُ مخالب وصريف أسنان، رفعَني بلحظات فوقَ شجرةٍ قريبة في الوقتِ الذي التقطَ حجراً مُسنّناً وقذفهُ بين البقعتين مباشرةً.‏

يضحكُ دائماً كلّما تذكّر الحادثة!‏

-صرختِ الضّبعة وأخرجت ريحاً مدويّاً لتفوحَ رائحةٌ مُقذعة!!‏

فاستيقظَ منزلٌ أعلى الوادي منادياً.‏

-من قتلَ «الكاسرة»!؟‏

-أنا «علي أيّوب».‏

-اللهُ الله يا أخي! تفضّل سألاقيكَ في منتصفِ الطّريق، تستأهلُ كأسَ عرقٍ وعشاء!‏

روى لنا الرجلُ وزوجه تهيّئ لنا على طبق قشٍّ عشاءً قرويّاً لذيذاً، كيف سطَتِ «الكاسرة» على الدّوابِ والطيور الداجنة، والتهمَت ذاتَ يوم أحدَ أطفال الضّيعة وهوَ غادٍ بالعنزات. لتروي الضّيعةُ بأسرها في اليومِ التالي كيفَ سُلختِ الضبعةُ انتقاماً، وأخرجوا الحجر من الجمجمة بصعوبة وقد انغرسَ ثُخنَ إصبعَين.‏

ربّما كنتُ -مثلَ عموم النساء- مولعةً بالرجلِ القاسي صارم القسمات، ورغمَ صَغارَهُ لي وشعوره الخفيُّ بدونيّةٍ تجاه منبَتي وَجَاهِي البعيد ما عذّبهُ وعذّبني معهُ؛ تفجّر حبّه بعنفوانٍ أكثر! تفانيتُ في إسعاده وأنجبتُ برضا ثلاثةَ عشر ولداً، ربّيتهم بيدٍ وبأخرى أمسكتُ المعولَ والمنجلَ، مكتفياً في أغلب الأحيان بالتمدّد على كُرسيٍّ للتشمّس أو توجيه الملاحظات بنزقٍ. صَمَتُّ بغصّةٍ وقت حرَم أحبّ أولادي إلي وأكثرهم تفوّقاً دراسيّاً من التوجّه إلى جامعةِ «أنقرة» ليدرسَ الطبَّ على حسابِ إخوتي هناك، كان الوحيد الذي نال الشهادة الثانويّة في الضّيعةِ بأسرها سنةَ ثلاثٍ وستّين وتسعمئةٍ وألف.‏

كما صمتُّ بعينين دامعتَين وقتَ منعَني من الذّهاب إلى «مرسين» وقد توفّيَ والدي الحبيب، زارتني أمّي آنذاك حزينةً وذهبت بحزنٍ مُضاعف وقت عاينَت رقّة حالي!!‏

-من القصرِ يا «مليحة» والخدمِ والحشم إلى هذا التعثيرُ والفقر؟ آهٍ منكِ يا بنتي!!‏

حكَت لي كيفَ غادرتِ البسمةُ وجه «يوسف الأشقر» مع رحيلي، زهِدَ بالطّربِ واتّخذَ الكأسَ خليلاً، وكَم صحَت في جوفِ الليل لترى دموعاً تزيّنُ الوجهَ الكسير وهذيانٌ باسمي، ليموتَ بَغتةً ذاتَ صباحٍ شتائيٍّ قارس، وتنبجسَ من النافورةِ المعطّلةِ مياهاً بيضاء غسلوا الجثمانَ بها وإذ انتهوا غاضت! ثم تفجّرتْ ذخائر احتفظ بها والدي طويلاً في قبوِ القصر فجأةً، أحالتِ القصر الباذخ إلى أنقاضَ سوداءَ.‏

لكنّي عُدتُ الآن. أقفُ أمامَ القصرِ يغلّفه الضباب، وجنازتي للحقيقة كانت مختلفة عن الحلم الذي غشاني طويلاً، بكاءٌ ودموعٌ ذرفَها الرجال في شبهٍ أخمّنه مع جنازة والدي، «عليٌّ» واقفٌ بصمتهِ وعنجهيّته تلك كما حاله وقت تركنا أهلي، ألمحُ والدي يتراجعُ عنه الضباب مقبلاً نحوي، أهرعُ أقبّلُ وجهه ورأسه بلهفة، يضحك طويلاً ويطلب منّي أخذ المزهرِ وانتقاءَ مكانٍ لطيفٍ في الحديقة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية