تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وبضدها تتميز الأشياء

الملحق الثقافي
5-3-2013م
حسن ابراهيم أحمد:يقول دوقلة المنبجي «والضد يظهر حسنه الضد»، لكن، كما أن الضد يظهر حسن الضد، فكذلك يظهر الضد قبح ضده، فيظهر الدور سلباً أو إيجاباً، قبحاً أو حسناً.

المهم هنا أن نتبين أن المختلفات أو المتناقضات تتحدد ببعضها، فالمرض يتحدد بالصحة، والصحة تتحدد بالمرض، والبربرية تتحدد بالمدنية، والغرب بالشرق، والسحر والخرافة بالعلم، والعقل بالنقل، والعالي بالداني مع تفاوت العلو والدنو..إلخ. ومثلما تتحدد المتناقضات ببعضها وحسب درجاتها، فكذلك قد تساعد الاختلافات على تحديد المختلف، ولو لم تصل حد التناقض. فالعلاقة التي تنشأ بين الأشياء أو الأفكار بنتيجة التداول، هي التي تعطي للشيء أو الفكرة معناها أو قيمتها التداولية أو مواقعها، ولا يحصل ذلك إذا كانا متفقين في المعنى أو الدلالة. وهنا يبدو الاختلاف في الدرجة، مثل ذلك الذي قال عنه نصر حامد أبو زيد إنه اختلاف في الدرجة لا في النوع، مشيراً إلى الفكر الإسلامي المتشدد والمتسامح وما بينهما من تمايز.‏

فقالوا انتخب شيئاً نجد لك طبخه/ قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً‏

لقد كانت معاناته من العري أكثر إيلاماً له، ما يجعل الاكتساء مفضلاً على الطعام في تلك اللحظة. الشعوب التي تعاني الاحتلال، قد ينسيها ذلك أيضاً، أنها تعاني الاستبداد والجهل والتخلف، ومع أن هذه جميعاً تنفي الحرية وتحد منها وتمنع تحققها، والتحرر منها مطلب الشرفاء، إلا أن الخلاص من الاستعمار يجد أولوية لدى المناضلين ريثما يتحقق، عندها يأتي الخلاص من الجهل حسب الأولويات التي تحددها الشعوب، ومدى أهمية الأهداف، فقد تكون الوحدة المجتمعية مانعة لبعض النضالات، لكن إذ لم تكن هناك منعكسات سلبية للنضال في سبيل الأهداف النبيلة، فلا عذر للشعب في أن يركن للاستبداد أو للجهل والتخلف، فكما أن الاستعمار مرفوض كذلك الاستبداد، والفارق في نوع الحرية التي يمنعها كل منهما ودرجة المنع وأدواته.‏

في كل هذه الحالات، قد يكون المؤجل هو مواجهة الجهل والتخلف، وهذا قبيح، فالتخلف مانع للحرية مثلما الجهل مانع لها، وهي تتحدد بالخروج من كل المعوقات. ولا يمكن لمن لا يمتلك قدراً من الوعي أن ينجز تحرراً، لا من الاستعمار ولا من الاستبداد. وهنا يتحدد موقع الجهل وقدرته على أذية الشعوب. لكن يجب التنبه إلى أن الحرية مثلما تتحدد بالاستعمار والاستبداد والجهل من جهة، فإنها تتحدد من جهة أخرى بالقوانين التي تضبطها.‏

إذ لا يمكنها تجاوز القوانين وأن تبقى حرية.‏

الأولويات التي توجه سلوك المناضلين من أجل الحرية عرضة للتغيير، وكل خطوة تساهم في تحديد التي تليها. فالخلاص من الاستعمار يجعل التنمية وإزاحة الجهل ونبذ التفرقة والتواصل مع الشعوب الصديقة، وغير ذلك، أهدافاً مقدمة على ما يجده آخرون مثل بناء الديمقراطية والحكم الرشيد وإرساء قواعد تداول السلطة منعاً للتناحرات، ولكل رأي وجاهته، مع أن الحرية والنضال في سبيلها لا تشكل موانع لأي هدف من هذه، بل قد تشكل عاملاً مساعداً، ما يعني أنها تتعزز بإزاحة ما ينقضها. إن عدم تحديد الأولويات وخطط النضال وتوجيه الإمكانات لذلك، يجعل العوائق تتصلب، فعدم إرساء الديمقراطية في البلاد العربية، أو التراجع عنها أحياناً، أظهر أن له ثمناً سيدفع يوماً ما.‏

مواجهة الاستعمار تتطلب تضافر جهود الشعب لانتزاع الحرية، وقد يدعو ذلك لحمل السلاح، في حين يبدو النضال ضد الاستبداد، فكرياً وسياسياً، فالاستبداد أو الشمولية هو ممارسة من بعض الشعب ضد الآخرين، والعنف هنا له محاذيره على الوطن والمجتمع، من هنا كان الوعي ببشاعة الاستبداد، يحتل الحيز الفكري في أدبيات الحرية، ويلحظ هذا في جهد المناضل والمفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي، الذي دفع حياته ثمناً لتلك المواجهة الفكرية مع الاستبداد العثماني.‏

وإذا كانت الحرية هي ماهية الحقيقة، كما ينقل عن الفيلسوف الألماني هيدغر، فهي تنتمي إلى ما هو عملي من حقول الحياة، وبهذا تبدو فعلاً تاريخياً له زمانه ومكانه، أي بالإضافة إلى أنها مفهوم مجرد، فهو أيضاً مرتبط بظرف معين، فلكل زمان حريته. فحرية العبد وحرية المرأة والشعب والحرية الفردية وحرية الفعل السياسي، كلها من الحرية، ومع أن اختيار السلطة من ذلك، فإن لاختيارها أو حتى وجودها من القيود على الحرية، مثلما تبدو القوانين، فعبد الله العروي يقول: «كلما اتسع مفهوم الدولة ضاق مجال الحرية»، ويوافقه على ذلك غيره من المفكرين مع ذلك لابد من الدولة لتنظيم الحرية.‏

الحرية تحتاج إلى الرعاية الدائمة كي لا تتحول إلى نقيضها الذي تحددت به وثارت عليه، فالحرية أتاحت وصول الفاشية والنازية إلى الحكم، والأصوليات تصنع أبشع أنواع الاستبداد وتنفي العقل، وبنشر ثقافة التفوق العرقي أو العقدي الثقافي تزداد الكراهية، ويتراجع الوعي، ويسود منطق الطاعة بدل الحرية، ويضيع الإنصاف والتسامح وينزوي الحوار والسياسة تحت ضغط المبادئ المتعالية.‏

التفكير بما قد تجلبه الحرية من نفي للحرية، يجعل الحذر مضاعفاً من أن تتحول إلى نقيضها، فالحرية الفكرية وحرية الاعتقاد والرأي والنشاط الثقافي، مطلوب رعايتها، والتقصير في ذلك من قبل الدول والقوى أو المنظمات يجعلهم في مواجهة العالم، دون الوضع في الاعتبار أن الشعوب ذات السطوة والقوة، لديها القدرة على نشر ثقافتها، وهذه في كثير من الأحيان تشكل عدواناً على الثقافات الأخرى يعبر عنها بـ «الغزو الثقافي»، ما يجعل الثقافة الضعيفة ضحية، ويفرض القيود على الحرية وينفيها، من أجل حماية حرية الآخرين. وهذا يشبه ما قد تجلبه الديمقراطية حين تمكن الأكثرية من الحكم، ما يجعل الأقليات قيد الاستبعاد والاستبداد، ويحتاج إلى ضمانات، حسبما يعبر عنوان كتاب آلان تورين: «ما هي الديمقراطية: حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية؟».‏

الكثير من حالات الاستلاب تنتج نقائضها كما العكس، فالسجن كان موقعاً مناسباً للمفكر الإيطالي غرامشي ليكتب فصولاً هامة في فكر الحرية «دفاتر السجن»، وسجن الشاعر التركي ناظم حكمت دفعه لنظم أجمل الشعر الذي يتغنى بالحرية.‏

ليس السجن فقط، فالمرض –وهو قيد على الحرية- دفع سعد الله ونوس لكتابة أجمل وأكمل أعماله المسرحية، وقبله كان أمل دنقل ينظم أجمل أشعاره المناضلة وهو طريح فراش المرض.‏

يبدو أن البشرية محكومة، كلما حققت حرية أعمق، أن تنفتح أمامها أبواب جديدة من الاستلاب لم تكن لها عهد بها، والحرية تنتعش بمواجهة أضدادها. وإذا كانت أشكال الاستبداد والاستلاب تتجدد مع نمو الحضارة الحديثة، كالاستلاب التكنولوجي واستبداد الإعلام وغير ذلك، فإن أشكال الاستبداد القديم لا تزال تفعل فعلها، مع أن بعضها يتهاوى في النضال ضدها، أو بتحقيق مفهوم المواطنة عبر النضال. والمواطنة تتحقق باعتبارها صفة مشابهة للإنسانية لا تقبل التفاوت والتفاضل. وقد استقر مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر كمفهوم تاريخي شامل ومعقد تتعدد أبعاده وتتنوع مادياً وقانونياً وثقافياً وسلوكياً، كما تكون وسيلة أو غاية تبلغ تدريجياً بتعاون أفراد المجتمع، والمهم الانخراط في فعاليات الحياة بحرية، ما يحدد شكل المواطنة ودرجة تحققها.‏

لكن الأكثر تعقيداً أو عنتاً وصلابة من أشكال الاستلاب، هو الاستلاب العقدي الإيماني، إذ «حيث تنتهي حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان» كما يقول كانط، ما يدخل في حقل الجهل المقدس، فحرية الفكر وحرية الجسد أيضاً تدخل في تناسب عكسي مع الفكر الديني والحالة الإيمانية في المجتمع.‏

أول ما يطالعنا في الإيمان الديني والسياسي، هو الثبات في كل شيء، من النصوص إلى المعتقدات إلى السلوك و»العلم المستقر هو الجهل المستقر» كما جاء عن النفري، وهو مانع للحرية باعتبارها نفي للجهل.‏

الفكر الديني هو الأقدم، وهو في كل تجلياته وبروزاته يعتمد على التناقض أو الأضداد التي تساهم في تحديد بعضها، ففي الأعالي كان الإله الإيجابي عند البابليين، وفي الأعماق كان الإله السلبي، وعالم النور نقيض عالم الظلام، وإله الخير نقيض إله الشر. والله ضد الشيطان في آخر وأكمل الانبثاقات الدينية الكبرى، الله رب الكون النافع، والشيطان مصدر الأذى والشرور.‏

يحيا الإنسان ويموت دون أن يصح له التحرر من أي التزام، حتى الالتزام السياسي، مهما بدا ظالماً ومتعسفاً، فالفقهاء يطلقون قواعد، مثل: من مات وليس في عنقه بيعة مات مرتداً. ومن فارق الجماعة وخرج على الطاعة مات ميتة جاهلية بالتالي: والٍ غشوم خير من فتنة تدوم. وفي الأيديولوجيات السياسية يصبح الخارج على النصوص أو القائد هرطوقاً. وكل هذه المبادئ وغيرها محروسة بترسيمات المؤمنين، وتسد الطريق إلى الحرية أمام الفرد أو الجماعة، والخوف من الخطأ يوقع في مصيدة الأصولية والتشدد.‏

الأيديولوجيات ومنها الأصولية الدينية، تهيمن على الفضاء العام بمقدار ما تستطيع، وما تستطيعه كثير بالنظر إلى الأسلحة التي تمتلكها، من سلاح الجنة والنار، الكفر والإيمان، وصولاً إلى السيوف الجاهزة للذبح والسيارات الجاهزة للتفجير، وهذه لا تعمل بمبدأ سعد بن أبي وقاص الذي قال «أعطوني سيفاً يفرق بين الحق والباطل»، عندما طولب بالاشتراك في الحرب بين الأطراف المتنازعة في صفين. إن متفجرات الأصولية أكثر عمى، وعماها المدعوم من الفضائيات والفتاوى المحرضة والفكر الجهادي، ما يجعله يطال من هو بمتناول أطنان المتفجرات في السيارات المفخخة.‏

إننا كمؤمنين ندعي السعي لمساعدة الإنسان وتحريره من الاستبداد والجهل والجاهلية، لكن الطريقة التي نختارها لتحريره، هي قتله، ولست أدري كيف يصح هذا؟!‏

التعرف إلى الحرية بنقيضها، يظهر أن هناك فكراً راعياً للتخلف ومتمسكاً بالعنف للعودة عن مكتسبات الحرية التي حققتها المجتمعات، ما يجعل هذه الحرية في مواجهة نقيضها أو ضدها مرة أخرى، وهو هنا التزمت والانغلاق والجهل والتخلف والتصلب العقدي. إننا أمام قوة أو عنف يعمل عكس اتجاه التاريخ والحياة، وإذا كان ليس هناك عنف يعمل في حقل احترام الحياة، إلا أن عنفاً عن عنف يختلف، وكل عنف مرفوض ما لم يميز وبشكل دقيق وأكيد بين ما تؤول نتائجه لخدمة الإنسان وما تؤول نتائجه لتدمير الإنسان، منسجماً بذلك مع مطلب سعد بن أبي وقاص والسيف الذي يطلبه.‏

إذا كان هناك من دور للقوة أو للعنف في صناعة مستقبل أفضل، فهو ذلك الذي قال عنه ماركس: «القوة هي قابلة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد» والضد يظهر حسنه الضد.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية