تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أدهم اسماعيل..... حداثة بروح عربيَّة

الملحق الثقافي
5-3-2013م
د. محمود شاهين:«إن عطاء الفن أكثر خلوداً من عطاء الفكر نفسه في أغلب الأحيان، ذلك لأن العالم بأسره يفهم لغة الفنان، ولا يفهم لغة الفكر إلا أبناء أمته حين لا تترجم آثاره إلى لغات الغير.

‏‏

والفنان في نظري هو من كان للفن في مجمل حياته. لا يُعرف الفنان الأصيل من ريشته، أو شعره، أو إزميله، ولا من إنتاجه الموسيقي والتمثيلي فحسب، وإنما يُعرف أيضاً من سلوكه وأخلاقه. من قضيته ومواقفه، إنه يُعرف من مستوى علاقاته الاجتماعيّة وتصرفاته اليوميّة ومجمل حياته».‏‏

بهذه الرؤية، يطل الأستاذ فايز إسماعيل، على تجربة الفنان التشكيلي السوري أدهم إسماعيل الذي يُعتبر أحد الرموز الرائدة لحركة الفن التشكيلي السوري المعاصر، والرائد الأول الذي سكنه هاجس الخروج من عباءة الفن الغربي، والتأسيس لفن عربي الملامح والشكل والمضمون، سيما وقد عانى وهو ابن لواء اسكندرون من التشرد والنزوح عن مسقط رأسه «أنطاكيّة» التي ولد فيها عام 1922 واضطر للهجرة منها مرتين: الأولى عام 1938 والثانية عام 1939.‏‏

‏‏

فنان الهاجس النبيل‏‏

يُصنف الفنان أدهم إسماعيل ضمن التشكيليين المؤسسين للحركة التشكيليّة السوريّة الحديثة. فقد درّس مادة الرسم في أكثر من ثانوية ومعهد، على امتداد الوطن السوري منذ العام 1948. كما كان في عداد الفنانين الأوائل الذين أوفدوا لدراسة الفن في إيطاليا عام 1949، ومن الذين رافقوه الفنان الرائد محمود حمّاد.‏‏

شارك الفنان إسماعيل في معظم النشاطات والتجمعات والمعارض الفنيّة منذ العام 1949 حتى رحيله في العام 1963، كما قام بتدريس مادة الفسيفساء «الفريسك» وتاريخ الفن في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق التي تأسست العام 1960 كمعهدٍ عالٍ للفنون الجميلة من قبل مجموعة من أساتذة الفن في مصر وسورية، وكان يتبع يومها لوزارة التربية، ومنذ العام 1963 تحوّل المعهد إلى إحدى كليات جامعة دمشق. حصلت أعماله الفنيّة على عدد من الجوائز وكثير من الاهتمام،‏‏

غير أن رحيله المبكر اغتال الوعود الطيبة والكثيرة التي كانت تحملها موهبته الكبيرة المسلحة بهاجس نبيل هو: استنهاض فن عربي بروح حديثة، وقد تجلى هذا الهاجس بوضوح وجلاء، في أعمال المعرض الاستعادي الذي شهدته صالة المعارض في متحف دمشق الوطني العام 1984، حيث قدمت صورة شاملة عن تجربته الفنيّة الهامة والمتفردة.‏‏

‏‏

بحث وتجريب‏‏

لقد كان الفنان أدهم إسماعيل مولعاً بالتجريب، غير راغب بوضع نفسه وفنه في إطار هذا الاتجاه، أو ذاك الأسلوب، بالشكل الذي رأيناه عند الكثير من زملائه الفنانين التشكيليين السوريين والعرب الذين عاصروه في تلك الفترة. فإذا ما استثنينا الأعمال الأخيرة في تجربته الفنيّة «وهي من الأعمال الكبيرة»، والتي أكدت على اتجاه معين عنده، نجد أن لدى هذا الفنان رغبة لا تقاوم لتأكيد ذاته، عبر التيارات والاتجاهات الحديثة في الفن التشكيلي العالمي، خاصة تلك التي قادها فنانون معينون، وارتبطت باسمهم الشخصي. أي تلك الاتجاهات الخاصة التي لم يُقدر لها أن تتحول إلى مدرسة أو تيار فني شامل وفاعل في الحراك التشكيلي المعاصر، قادر على أن يلمَّ حوله مريدين ومعجبين.‏‏

‏‏

كان أدهم إسماعيل موزعاً بين أكثر من رغبة منها سعيه الحثيث لتأكيد أسلوب فني خاص به، ينهض على معطيات الفن العربي الإسلامي وخواصه التجريديّة التي سبق بها الفن الأوروبي المعاصر باعتراف أحد أبرز أساطينه بابلو بيكاسو الذي أعلن بصراحة أنه أراد الوصول بفنه إلى أقصى نقطة في فن الرسم، فوجد أن الحرف العربي سبقه إليها منذ أمد بعيد. وفي الوقت نفسه، حاول أن يمنح فنه كل ما من شأنه تأكيد معاصرته وانتمائه إلى زمنه الطافح بالخروقات التقانية المدهشة، مدفوعاً بانتمائه الصادق والحميمي لوطنه وأمته، وعشقه لتراث بلاده الثر والأصيل والغني، ومسلحاً بالثقافة الفكريّة والبصريّة العميقة والواسعة،‏‏

‏‏

التي كوّنها من خلال دراسته الأكاديميّة للفن التشكيلي في إيطاليا، واطلاعه على مدارسه واتجاهاته وتاريخه، إضافة إلى معارفه العمليّة والتقانية التي درسها وعمّقها بالانكباب على الإنتاج والعرض.‏‏

كان جل اهتمام الفنان أدهم إسماعيل، تحقيق لوحة فنيّة حديثة السمات والانتماء، متفردة الخصائص والمقومات الشخصيّة والقوميّة. أي أن فن أدهم إسماعيل هو الفن العربي المطّلع على فنون الغرب الحديثة، وعلى الفنون العربيّة الإسلاميّة التي سبقت فنون الغرب، في استشراف حقول واتجاهات فنية عالمية معاصرة ومتقدمة، لا سيما استخدامات الخط العربي في بناء اللوحة المعاصرة التي قادت إلى الاتجاهات التجريديّة المتمثلة بالحروفيّة والرقش «الأرابيسك» وغيرها. يضاف إلى ذلك، الفنون الشعبيّة التي تمثل خزائن التراث وروحه الحية والمستمرة.‏‏

‏‏

نماذج من أعماله‏‏

أبرز سمات وخصائص فن أدهم إسماعيل، استفادته من الخط اللامتناهي في التراث التشكيلي العربي، وقيامه بتسخير المعطيات التشكيليّة والتعبيريّّة لهذا الخط، في معالجة موضوعات معاصرة، محليّة وعربيّة كالفروسية والحرية والثورة والنضال الوطني والقومي، إضافة إلى موضوعات اجتماعية وتراثية عديدة تمثلها لوحاته: الفارس العربي، طائر يفك قيده، مظلي، وراء القضبان، الثائر المطارد، بورسعيد، زلزال أغادير، وموضوعات اجتماعيّة عديدة منها: ما وراء الجوع، على العين، شمس على الشاطئ، امرأة جالسة، الدبكة، ألحان وعطور، الزجل السوري، العتال.‏‏

كما عالج موضوعات أخرى، كانت ولا تزال، لصيقة بفن الرسم والتصوير كالوجوه والمناظر الطبيعيّة التي عالجها بنفس الأسلوب والصياغة القائمة على خطوط مستمرة، انسيابيّة ورشيقة، تشكلها المساحة اللونيّة المبسطة والمتدرجة للإيحاء بالتجسيم أو بالحجم، وهذه المساحة هندسيّة صارمة تارة، ومستديرة لينة قائمة على الأقواس، تارة أخرى، وفقاً للمكان الذي تتموضع فيه «جسم إنسان، وجه، ثياب، شعر، أشجار، بيوت» ولطبيعة الموضوع الذي تعالجه اللوحة. مثال ذلك، لجوء الفنان إسماعيل في لوحته «طائر يفك قيده» إلى استخدام الخطوط المستقيمة والصلبة، واعتماد المساحات اللونيّة الكامدة والصريحة القادرة على تجسيد حالة التحرر الوطني والقومي التي رمز إليها بالطائر الذي يفك قيده، ويشير من خلاله إلى الإنسان العربي الطامح للحرية والاستقلال والانطلاق، رغم ما يحيط به من تحديات جسدها بالبيوت المدمرة، والطائرة الحربية، والقيد.‏‏

‏‏

عكس هذه الصياغة، نراها في لوحة «ليمونة» التي تمثل امرأة عارية استقرت في كفها ليمونة أخذت هيئة وشكل ثديها، إذ اعتمد الفنان إسماعيل، للتعبير عن هذا الموضوع الأنثوي الشفيف والرهيف، الأقواس والخطوط المنحنيّة المنسابة برقة وعذوبة، والمتوافقة مع هيكليّة جسد المرأة وشعرها المتماوج حول رأسها، والمنسدل على كتفها وحول صدرها. ولتأكيد هيكلية المرأة وتجسيمها، والإيحاء بأطرافها، قام بعملية تدريج لون الجسم، مشيراً إلى ورقة التوت التي حرك بها ألوان الجسد الفاتحة والحارة، وبهدف إبراز وتأكيد هيكلية المرأة والعناصر المكونة لها، زرعها فوق خلفية لونية غامقة، تبادلت معها الدور، حيث أكدتها وتأكدت هي من خلالها، وهذه حلول تشكيلية معتمدة في الرسم الكلاسيكي والحديث والمعاصر.‏‏

‏‏

التنويع في الأسلوب والصياغة، وفقاً للموضوع المتناول، كرره الفنان أدهم إسماعيل في أعماله كافة، وهي أعمال لم تغادر الضفاف الواسعة للواقعيّة التشخيصيّة، المشوبة بنزعة سورياليّة واضحة، وبحس تزييني مرده إكثاره من استخدام الألوان الصريحة والمتضادة، واعتماده الأشكال المتماثلة والمتناظرة، المؤطرة والمفصولة عن بعضها البعض، بحدود المساحة اللونيّة نفسها، وهي حلول تشكيليّة متميزة، تابع الاشتغال عليها زميله الفنان التشكيلي السوري ممدوح قشلان الذي جايله في العمر والدراسة الأكاديميّة «مواليد دمشق 1929 ودارس للفن في إيطاليا»، ولا زال يشتغل على هذه الصياغة حتى اليوم، ما يؤكد توحدهما في الدوافع والأهداف، واتخاذهما حلولاً تشكيلية مشابهة لتجسيد هذه الأهداف في لوحة عربية معاصرة، كانت أكثر حيويةً وتنوعاً، لدى الفنان إسماعيل منها لدى الفنان قشلان الذي بات أسيراً لأسلوبيّة نمطية جامدة ومكرورة.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية