وربما كانت وسيلة للوصول إلى كتاب يجمع فنوناً شتى من الشعر والبلاغة والنقد وغيرها. فاتخذها كثير من الكتّاب مطية لإظهار ما عندهم من علم في أعطاف شروحهم، وإدلالاً بمقدرتهم على الخوض في عباب هذا التيار الزاخر الذي يتطلب الكثير.
ويحتل هذا الكتاب مكانه في قافلة كتب الشروح التي تصلح مرآة لعصرها، فيعطي صورة وافية عن الأدب وأصحابه، وأذواقهم وطرائقهم ومثلهم الأدبية. حتى غدا بما جُمع فيه من تراث الأمة، وما يبدو من ذوق صاحبه، رافداً قوياً نستشف من خلاله صورة عن الأدب العربي في ذلك العصر.
ويشرح الكاتب سبب اختياره لشرح نجم الدين الغزي : ( وكان من أسباب اختياري لشرح نجم الدين الغزّي من بين الشروح الأخرى للاّمية، تفرّده بالإبانة عن أصالة مؤلفه، وتمكّنه من ناصية اللغة، وثقافته الموسوعية، واضطلاعه بعلوم شتى، وهو ما نتوق للعثور عليه في تلك العصور.
وقد رمى الغزي من تأليف تحفته في شرح لامية ابن الوردي (ت 749هـ) التي مطلعها:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
إبراز قيمتها الفنية، وإتاحة الاطّلاع عليها لمن لم يسبق له أن اطّلع عليها، والحثّ على ضرورة الأخذ بما فيها من حكم ونصائح ووصايا في مجتمع كان بأمسِّ الحاجة إلى نبراس ينير سبل الحياة.)
وقد بيّن الغزيّ في مقدمة كتابه أنه انكبّ على هذا الشرح استجابة لرغبة أحد أصدقائه، الذي طلب منه أن يكتب شرحاً وافياً لطيفاً على لاميّة ابن الوردي، فقال في ذلك: «فقد سُئلت مِنْ بعض مَنْ خصَّه الله بسداده، وتعيّن عليّ أن أجيبه إلى مراده، أن أكتب شرحاً وافياً لطيفاً، وبياناً واضحاً منيفاً، على لامية الشيخ العلاّمة، المحقق الفهّامة، فقيه الأدباء، وأديب الفقهاء، الشيخ الإمام زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى، فإنها من غُرر القصائد، المشتملة على الحكم والنصائح والفوائد، فاستخرت الله تعالى، وعلّقت عليها هذه التعليقة، التي هي بالتدوين حقيقة، وأنا أرجو من الله تعالى أن تكون من الأعمال الصالحة الجميلة، وأن تكون نيتنا عنده سبحانه وتعالى مرضية مقبولة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».
وبعد هذا التقديم فتح الغزي صفحة من صفحات حياة ابن الوردي، فأطلعنا عليها، واختار نبذة من أشعاره استمدها من المصادر القديمة مثل طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، وبغية الوعاة للسيوطي.
ولا يمكن أن نعدَّ كتاب (التحفة الندية في شرح اللامية الوردية) كتاباً أدبياً فحسب، فقد ضمّنه الغزّيّ وجوهاً من المعرفة استقاها من القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر واللغة والتاريخ، فأثرى ثقافة المتلقّي، ووسّع آفاقه لما جمعه من الفنون والعلوم، فإن قرأه الأديب أنس بما فيه من أخبار وأشعار، وإن وقف عليه اللّغويّ أعجب بما أورده من معان معجمية، وإن قرأه محدّث أُخذ بكثرة الأحاديث النبوية الشريفة الواردة، مع ذكر رواتها، وطرقها أحياناً، وإن اطّلع عليه مؤرخ شاقته الأخبار التاريخية، وإن قرأه متصوف وجد فيه الكثير من نفحات المتصوفة، وأشعارهم وأخبارهم، ومن هنا تنبع قيمة الكتاب، لما فيه من أدب رفيع وحكم رائعة، حشد لها المؤلف شواهد من القرآن الكريم، ومن سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آثار الصحابة والتابعين، ومن آداب البلغاء وأقوال الشعراء، ومن حكم العرب وأمثالهم، وهو يذكر أسماء الكتب التي أفاد منها، والمصادر التي أخذ عنها بعد أن صاغ ذلك كله بأسلوب شائق، جمع فيه بين تحقيق العلماء وترقيق الأدباء، واتجه إلى الإنسان المدرك حقيقة الحياة،ليوقظ فيه العقل والفكر أكثر مما يثير فيه العاطفة والشعور، وليأخذ بيده نحو الجادة الواضحة وطريق الرشاد، ويسمو به من واقعه المحدود وتجربته الصغيرة، إلى عالم أرحب وتجربة أكبر.
وهكذا فإنَّ كل من يطلع على الكتاب ينتفع ويستمتع، ولا عجب في ذلك، فالكتاب متعدد المناهل، متنوع الأفانين، إنه منجم للقيم المعرفية، وتوغل في العقل التاريخي للأمة، ولا ريب في أنه يشعرنا بالمسؤولية والأمانة إزاء تراثنا العريق، لاستلهامه وتوظيفه لحاضر هذه الأمة ومستقبلها، لما للتراث من دور في تحقيق الوعي بالذات، واستيعاب فكر الأمة الجماعي، والتمرن على التغيير الثقافي. إنه يمنحنا القدرة على الامتداد، ويضيف أعماراً إلى أعمارنا، وعقولاً إلى عقولنا، وتجارب إلى تجاربنا.
الكتاب : تأليف شيخ الإسلام نجم الدين الغزّيّ - ترجمة وتحقيق هناء سبيناتي.