لكن مع نهاية الحرب الباردة، و انبثاق عهد التحول الديمقراطي في عام 1991، عرفت مالي «ثورتها الديمقراطية»-مع نهاية الحزب الواحد الشمولي، و إجراء انتخابات ديمقراطية شفافة. وبذلك أصبحت مالي نموذجاَ للديمقراطية في إفريقيا، و حظيت بسياسة فرنسية مختلفة عن باقي البلدان الإفريقية.
بيد أن الديمقراطية كلمة كبيرة، لكنها لاتقود إلى بناء دولة القانون في إفريقيا، بل إنها شكلت غطاءً حقيقياً للعولمة الليبرالية الاقتصادية، و إضعاف الدولة. فتحت حجة نزع الديون، تم إعفاء الدولة من مسؤولياتها، وهو ما قاد إلى تخليها عن السياسات الاجتماعية. وباتت الصحة، و التعليم ، و التنمية ، في عهدة مجتمع مدني «مصطنع»، يعمل لمصلحة منظمات غير حكومية مُمَّولة من الخارج. و قد نما في ظل هذا النموذج برجوازية طفيلية منقطعة عن الواقع. فتراجعت فكرة الجمهورية، و كذلك الإرادة الوطنية. و في ظل هذا المناخ الديمقراطي، استفادت التيارات الإسلامية من هذا المسار، وأصبحت تتمتع بنوع من الحكم الذاتي في ظل الفضاء العام من خلال بناء الجوامع، وبروز شخصيات إسلامية كاريزماتية، استغلت هذا الفضاء العام لنشر أيديولوجيتها الدينية، لا سيما أن 75% من الشعب المالي أُمّي، و أن 92% من هذا الشعب لا يتقن الفرنسية.
في ظل هذه الأوضاع من المسار الديمقراطي، وما تخلله من إدخال المنافسة إلى الساحة الإسلامية، تحولت المسألة السياسية نحو الديني. و يهيمن في مالي الإسلام السني المالكي بنسبة أكثر من 80% من السكان. و في عام 1945 حاول بعض الشيوخ الوهابيين فرض الإسلام المتشدد في مالي، عبر مهاجمة الإسلام التقليدي المعتدل السائد هناك. وعقب استقلال مالي في عام 1960، و مجيء النظام الاشتراكي بقيادة موديبو كايتا، خفف من هيمنة الإسلام المتشدد، وفرض العلمانية. غير أن الديكتاتورية في عهد الجنرال موسى تراوريه الذي خلف موبيدو كايتا في عام 1968، قلب الاتجاه، من خلال تشجيع الإسلاميين المتشددين الذين ساندوا انقلابه العسكري. ومع عودة الديمقراطية في عام 1991، لم يسمح بتشكيل الأحزاب الدينية. ومع أن القوانين في مالي قوانين وضعية، وطبيعة الدولة علمانية، فإنه في الحياة الواقعية، نجد أن قوانين الشريعة الإسلامية هي التي تطبق، لكنها ليست بنفس التشدد كما هي مطبقة في بعض البلدان الإسلامية. ففي شهر رمضان، تبقى المطاعمٌ مفتوحة، ويباع الكحول بوفرة، وحتى بعض الناس يدخّنون في وسط الشارع. وإن كان غالبية السكّان يصومون في شهر رمضان إلاّ أنّهم يُمارسونه «على الطريقة الماليّة»، حيث لا قيود عامة على التقوى.
في ظل فساد الدولة المالية، وعدم تجذُّر التجربة الديمقراطية في مالي لحل المسألة الوطنية على أسس ديمقراطية، تعطي للطوارق حقوقهم المسلوبة ،وبروز تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في عام 2006، الذي كان يعمل تحت اسم «الجماعة السلفيّة للتبشير والجهاد»، ومن ثم نتيجة تداعيات الحرب في ليبيا التي سهّلت تمرير الأسلحة إلى بلدان المغرب العربي والساحل، استغل التطرّف الإسلامي هذا الوضع، و سيطر الإسلاميون المتشددون على شمال مالي، وعملوا على فصله عن الدولة الأم من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية، والقيام بعمليات تطهير عرقي تجاه السكان القاطنين في الشمال، ومهاجمة أضرحة الأولياء الصالحين بالاعتداء على الأماكن الأثرية المقدسة في البلاد، حيث عاث هؤلاء الإسلاميون المتشددون فساداً وقتلاً في المنطقة الواقعة في شمال مالي.
ولما بدأت الجماعات الإسلامية المتشددة المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تزحف للسيطرة على جنوب البلاد، وبالتالي الهيمنة على المشهد السياسي والعسكري لمالي التي أصبحت مرتعاً خصباً للإرهاب وموطناً آمناً للمسلحين الإسلاميين التابعين لتنظيم القاعدة، حصل التدخل العسكري الفرنسي المدعوم من القوى الغربية، و الدول الإفريقية، وبطبيعة الحال من السلطات المالية المنهارة، حيث أصبح الجيش المالي في ظل الدولة الفاشلة عبارة عن مجموعات من الموظفين معنيين بالتجارة و السمسرة و التهريب، لا بالدفاع عن حرمة الوطن، و مواجهة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المتشددة.
هذا التخلي عن معنى الدولة، و بالتالي غيابها، هو الذي عبّد الطريق لسيطرة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على شمال مالي، حيث بات يملك جيشاً حقيقيا من المقاتلين، بفضل الأسلحة التي غنمها من ترسانة النظام الليبي، إضافة إلى قدرة مالية هائلة من خلال الفديات التي يأخذها من الدول الغربية حين يخطف السياح، وهيمنته على طرق تهريب المخدرات القادمة من أميركا الجنوبية و تسلك طريق الصحراء الكبرى باتجاه أوروبا، حيث يتسلم ملايين الدولارات من عصابات المخدرات. وبفضل هذه الأموال الضخمة تحول تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، و الذي تنضوي تحت أجنحته معظم التنظيمات الإسلامية المتشددة في بلدان الساحل وغرب إفريقيا ، حركتَي» أنصار الدين » و «التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا» ، إلى قوة مادية كبيرة عسكرية و مالية، وسيطر على الانتفاضة الطوارقيّة، الأمر الذي سرّع خسارة القوى الحكوميّة الماليّة وانعدام الاستقرار السياسيّ في باماكو.
ومنذ أن بدأت عملية تدخل الجيش الفرنسي في مالي يوم 11يناير الماضي، حققت القوات الفرنسية تقدماً كبيراً في مواجهة الإسلاميين المتشددين، و تحرير المدن المالية في شمال مالي التي كانت تحت سيطرة قوات القاعدة وحلفائها. في غضون ذلك، يواصل 1200 جندي فرنسي يساندهم 800 جندي تشادي ملاحقة المسلحين في منطقة تيساليت (وهي منطقة جبلية تحصن فيها الإسلاميون الأكثر تشدداً) في أقصى شمال شرق مالي. ويشارك الجنود الماليون أساساً كأدلاء للجنود الفرنسيين والتشاديين.
وأكد الكاتب والمحلل ي بيير روسلان في مقال نشر في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية يوم السبت2 آذارالجاري، في موقعها على شبكة الانترنت أن الحرب الحقيقية في مالي بدأت الآن. وأشار روسلان إلى أن المعركة ضد جهاديي، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي دخلت مرحلة أكثر خطورة خاصة، بعدما ترددت معلومات أكدها الرئيس التشادي إدريس ديبي، بشأن مقتل أمير التنظيم الجزائري عبد المجيد أبو زيد «بن لادن» منطقة الساحل الافريقي حسبما وصف الكاتب.
وكان الرئيس التشادي إدريس ديبي أكد يوم السبت الماضي مقتل عبد الحميد أبوزيد، أحد أبرز زعماء تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، على يد الجنود التشاديين خلال معارك ضارية في مرتفعات شمال شرق مالي القريبة من الحدود الجزائرية. وقال ديبي في مراسم تكريم 26 جنديا تشاديا قتلوا في هذه المعارك «في 22 شباط ، خسرنا جنودنا في جبل ايفوقاس بعد تدمير قاعدة للجهاديين. كانت المرة الأولى التي جرت فيها مواجهة مع الجهاديين».
وفي ظل تحول الحرب في مالي إلى حرب ضد الإرهاب، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية رسمياً عن أن جبهة جديدة في الحرب ضد القاعدة فتحت في منطقة الساحل، و أن قاعدة للطائرات من دون طيار أصبحت موجودة في النيجر، حيث يتمركز هناك مئة عسكري من القوات الأميركية المتخصصة في مكافحة الإرهاب. و كان الرئيس النيجري محمدو إيسوفو، وقع في بداية شهر شباط الماضي اتفاقاً استراتيجياً مع واشنطن لمحاربة الإرهاب.و ينص الاتفاق هذا على بناء قاعدة عسكرية في النيجر، التي تنطلق منها طائرات التجسس الأميركية يو28. وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية الشريك المهم لمالي، البلد الذي أصبح منذ عام 2002 أحد الشركاء الرئيسين في المخطط الأميركي لمكافحة الإرهاب.
ومن المعلوم، أن الولايات المتحدة الأميركية تنشر ما يقارب 5000 جندي في إفريقيا، متمركزين بشكل رئيس في جيبوتي، التي أصبحت القاعدة الرئيسية للطائرات الأميركية من دون طيار. ويشمل برنامج الشراكة لمحاربة الإرهاب بلداناً عديدة من المغرب العربي ومن الساحل والصحراء. و توجد في القارة الإفريقية العديد من شبه القواعد الأميركية ، لا سيما في خليج غينيا، و منطقة القرن الإفريقي.
في مواجهة الإسلاميين المتشددين ، استطاعت الحرب في مالي أن توّحد من الآن فصاعداً كل الوسائل الممكنة، لاسيما في مجال الاستخبارات من الأرض إلى الجو، بفضل الأقمار الصناعية، و الطائرات من دون طيار الأميركية، لتكمل الحملة الفرنسية في مالي، التي تحولت إلى حرب فرنسية - أميركية- إفريقية ضد الإرهاب.