دون التوصل إلى اتفاق نهائي أو تطبيقه . وتنبع أهمية المقال من أنه يتيح الفرصة لفهم المواقف الملتبسة لواشنطن التي تدفع حلفاءها إلى مأزق بشكل تستطيع من خلاله فيما بعد فرض صفقة جديدة يتم استبعادهم منها .
يستعد الرئيس باراك اوباما إلى إجراء تغيير كامل في الاستراتيجية الدولية على الرغم من المعارضة التي أثارها مشروعه داخل إدارته .
والواقع بسيط . حيث توشك الولايات المتحدة لتصبح في حل من أمرها في مسألة التزود بالطاقة , بفضل استثماراتها السريعة في موضوع الغاز الصخري والنفط من الرمال النفطية . وفي ضوء ذلك أصبح مبدأ كارتر ( 1980 ) والذي يعتبر أن تأمين الحصول على نفط الخليج من ضروريات الأمن القومي بحكم الميت . وكذلك اتفاق كينسي (Quincy ( 1945 والذي تلتزم بموجبه الولايات المتحدة بحماية سلالة آل سعود مقابل تعهد هؤلاء ضمان وصول الأميركيين إلى نفط شبه الجزيرة العربية . وبالتالي فقد حان الوقت لانسحاب كلي يتيح لواشنطن تحويل قواتها نحو الشرق الأقصى من أجل احتواء تصاعد نفوذ الصين .
ومن جانب آخر , ينبغي العمل للحيلولة دون حصول تحالف عسكري صيني - روسي . ومن أجل ذلك ينبغي توفير فرص لروسيا تفضي إلى تحويل اهتماماتها عن منطقة الشرق الأقصى .
وأخيراً , صارت العلاقة الوثيقة التي تربط واشنطن مع تل أبيب عبئاً ثقيلاً على الولايات المتحدة , نظراً لما تسببه من أضرار لأمريكا وصعوبة تبريرها على الصعيد الدولي , هذا بالإضافة إلى إثارة غضب الشعوب الإسلامية ضدها . وهناك أيضاً الرغبة في معاقبة تل أبيب بصراحة نظراً لتدخلها بشكل سافر في الحملة الانتخابية الأميركية ضد الرئيس باراك اوباما .
تلك العوامل الثلاثة قادت الرئيس اوباما ومستشاريه إلى اقتراح اتفاق على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين , حول استعداد واشنطن التي اعترفت ضمنياً بفشلها في سورية لفسح المجال لروسيا لإجراء تسوية دون مقابل في الشرق الأوسط تتقاسم معها النفوذ في الشرق الأوسط .
وعلى هذا الأساس تم الاتفاق على بيان جنيف في الثلاتين من شهر حزيران المنصرم مع المبعوث الأممي كوفي عنان . في ذلك الحين كان الهدف إيجاد مخرج للأزمة السورية . إلا أنه تم تعطيل هذا الاتفاق من قبل عناصر داخل الإدارة الأميركية . بعد تسريبهم للصحافة الأوروبية معلومات عن الحرب السرية على سورية , ومن بينها وجود الأمر التنفيذي الرئاسي بتوجيه وكالة الاستخبارات الأميركية لنشر عناصرها ومرتزقتها في الميدان . إثر ذلك اضطر كوفي عنان إلى تقديم استقالته من مهامه كوسيط دولي . ومن جهته كان البيت الأبيض يحاول لفت الأنظار من أجل عدم كشف انقساماته في عز الحملة الرئاسية لإعادة انتخاب الرئيس اوباما .
وفي الخفاء كانت هناك ثلاث مجموعات تعارض اتفاق جنيف :
- العناصر المتورطة في الحرب السرية
- الوحدات العسكرية المكلفة بمواجهة روسيا
- التغييرات في إسرائيل
وفي أعقاب انتخابه باشر اوباما في عملية التطهير داخل إدارته . وكان أول الضحايا الجنرال ديفيد باتريوس , مخطط الحرب السرية ضد سورية . الذي اضطر إلى تقديم استقالته , عقب سقوطه في فخ علاقته العاطفية مع عميلة الاستخبارات العسكرية . ومن ثم تم وضع العشرات من كبار الضباط قيد التحقيق بتهم الفساد . ومن بينهم القائد الأعلى لحلف الناتو ( الأدميرال جيمس جي سترافيدس ) وخليفته المعين ( الجنرال جون آلن ) وكذلك قائد وكالة الدفاع الصاروخي , أي ( الدرع الصاروخي ) الجنرال باتريك جي اوريلي . وفي نهاية المطاف كانت السيدة سوزان رايس وهيلاري كلينتون عرضة لهجوم شرس بسبب اخفائهم معلومات عن الكونغرس تتعلق بمقتل السفير كريس ستيفنس في بنغازي , من قبل مجموعة برعاية ربما من قبل الموساد .
وإثر تشتيت هذه العناصر الثلاثة الداخلية المعارضة أو شلها أعلن الرئيس اوباما عن إجراء تجديد أساسي ضمن فريقه . عين فيه جون كيري , المؤيد الصريح للتعاون مع موسكو في المسائل ذات المصالح المشتركة , والصديق الشخصي للرئيس بشار الأسد , في وزارة الخارجية . ومن ثم ترشيح تشاك هاغل لمنصب وزير الدفاع , ويعتبر هاغل أحد دعائم الناتو , ولكنه واقعي . وكان يستنكر دوماً جنون العظمة لدى المحافظين الجدد وحلمهم بالامبريالية العالمية . إنه الحنين إلى عهد الحرب الباردة , ذلك الزمن المبارك الذي كانت تتقاسم فيه واشنطن وموسكو العالم بأقل التكاليف . ونظم هاغل إلى جانب صديقه جون كيري في عام 2008 محاولة إجراء مفاوضات تهدف إلى إعادة مرتفعات الجولان إلى سورية . وأخيراً عين جون برينان مديراً لوكالة الاستخبارات الأميركية , القاتل بدم بارد الذي اقتنع أن ضعف الولايات المتحدة يكمن بالدرجة الأولى في إنشائها وتطويرها لمفهوم الجهاد الدولي . وهاجسه ينصب في القضاء على السلفية وتحجيم السعودية .
وفي نفس الوقت واصل البيت الأبيض مفاوضاته مع الكرملين . وما كان يفترض أن يكون حلاً بسيطاً لسورية أصبح مشروعاً أوسع لإعادة تنظيم وتقاسم الشرق الأوسط .
وعلى الرغم أن الرئيس اوباما قد فاز في الانتخابات لولاية ثانية , إلا أنه في المرحلة الانتقالية لا يمكنه سوى التعامل مع المسائل المشتركة . ولن يستأنف مهامه إلا بعد خطاب القسم . وعقب الخطاب استمع مجلس الشيوخ إلى إفادة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ( 23 كانون الثاني ) حول خفايا مقتل السفير الأميركي في ليبيا , وفي اليوم التالي استمع إلى جون كيري للتأكيد على تعيينه . وبعدها مباشرة اجتمعت الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن لمناقشة مقترحات لافروف- بيرنز حول سورية . وتتضمن تلك المقترحات إدانة أي تدخل خارجي ونشر مراقبين وقوة سلام تابعة للأمم المتحدة , دعوة جميع الأطراف لتشكيل حكومة وحدة وطنية وتنظيم انتخابات . وكان يفترض معارضة فرنسا لهذه المقترحات دون التهديد في استخدام الفيتو ضد الهيمنة الأميركية .
والأبرز في الخطة هو أن القوة الأممية سوف تتشكل بشكل أساسي من جنود ينتمون إلى دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي . والرئيس الأسد يبقى في السلطة . وتجري بسرعة مفاوضات حول الميثاق الوطني مع قادة المعارضة غير المسلحة يتم اختيارها بموافقة من موسكو وواشنطن , ومن ثم يخضع هذا الاتفاق إلى الاستفتاء تحت إشراف المراقبين .
وقد تم الإعداد لهذا التحول في الأحداث منذ مدة طويلة . وإثرها تم التوقيع على موقف مشترك لوزراء خارجية منظمة معاهدة الأمن الجماعي وكذلك توقيع بروتوكول بين إدارة قوات حفظ النظام التابع للأمم المتحدة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي . وأصبح لدى تلك الأخيرة الآن سلطات منظمة حلف شمال الأطلسي . وجرت مناورات مشتركة بين قوات الأمم المتحدة وقوات دول المنظمة في كازاخستان تحت عنوان ( حرمة الأخوة ) وجرت مناقشة خطة نشر قوات ( القبعات الزرق ) لدى اللجنة العسكرية للأمم المتحدة في الثامن من كانون الأول المنصرم .
ولدى عودة الاستقرار إلى سورية , من المقرر عقد مؤتمر دولي في موسكو لسلام شامل بين إسرائيل والدول العربية المجاورة . إذ ترى واشنطن أنه من غير الممكن التفاوض على سلام منفصل بين إسرائيل وسورية , نظراً لأن سورية تشترط أولاً حلاً للقضية الفلسطينية من منطلق إيمانها بالعروبة . وأي مفاوضات ينبغي أن تكون شاملة , على غرار مؤتمر مدريد ( 1991 ) تقضي بانسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967 .
وتلك الخطة لا بد أن يكون فيها خاسرون , وأول الخاسرين هي فرنسا وبريطانيا , حيث يتلاشى نفوذهما , بالإضافة إلى بعض الدول الإقليمية مثل السعودية , التي تسعى جاهدة منذ عدة أسابيع التقرب من هؤلاء أو أولئك للهروب من مصيرها الذي ينتظرها . والفائزون , أولهم سيكون الرئيس بشار الأسد , وفي حين كانوا يدعون إلى محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية , سيتم تكريمه لانتصاره على المتطرفين الإسلاميين . وأيضاً فلاديمير بوتين , بسبب مثابرته طوال فترة الصراع وتوصله إلى إخراج روسيا من خطة ( احتوائها ) فتحت له شواطئ البحر المتوسط والشرق الأوسط وانتزع الاعتراف بتفوقه في سوق الغاز .
بقلم تيري ميسان