ولا نسوق الفكرة بمعناها الميكانيكي الذي يريد له البعض أن يتسفّل، بل مع كلّ المحافظة على وضاءة الجمالي، بعيداً عن الذّهاب إلى الأبراج العاجيّة، وهذا يؤكّد على تلك العلاقات العضويّة بين ماهو ثقافي، وما هو سياسي، في رؤيته العميقة، الشّاملة، وبالمدلول الإيجابي للسياسة، لابالمداليل التي تتعمّد تحقير السياسة أيضاً، لأهداف بالغة التردّي، والشيطنة، أوبالغة الجهل،
- 2 -
لعلّ ممّا يجب الانتباه إليه في هذه المرحلة أنّ مواقع الضخّ الإعلامي التّابعة للمشروع الغربي الصهيوني، كثيراً ماركّزت على فكرة (الاستبداد)، وربّما لعبت بأوراق الديموقراطيّة، وبعضها يُعدّ نموذجاً لطغيان القرون الوسطى، من حيث تحقّق الديموقراطيّة في بلاده، ومن حيث نظرته للمرأة، ولقد سمعنا في هذه الأيام التي نحن فيها من (الفتاوى) مايُضحك الثّكالى،!!
لستُ أنكر وجود الاستبداد في عدد من المواطن التي تخيّروها، بيد أنّ المفترض بمن يحارب الاستبداد أن يكون قد بلغ شأناً عالياً في تجسيد الديموقراطيّة، فكيف به حين يكون في مرحلة مَن يطلّق زوجته لأنّه شاهدها تتفرّج على برنامج تلفزيوني، فعدّ ذلك (خلْوة) بينها وبين المذيع!!
إذا قلنا إنّ الاستبداد نقص في حجم الديموقراطيّة، وهو ممّا يمكن تداركه، فماذا نسمّي البلدان، أو الحركات التي تنفخ في نيران(المذهبيّة)، وهي بذلك تلغي أبسط حقوق المواطنة المتعارف عليها عالميّاً حتى الآن، لتفرض رؤية (مذهبيّة) قاصرة، ومشحونة بكلّ أمراض التّمذهُب، ولتُصبح النصوص، والاجتهادات المذهبيّة الضيّقة هي الفضاء الوحيد لأيّ حراك شخصيّ، وقد يجد فقيه ما، في لحظة تجلّ خاصة، أنّ على الجميع أن يلبسوا الدّشداشة القصيرة، وأن يخرجوا إلى الشارع والمسواك في الفم، وأن تكون اللّحية بحجم (الحضن)، وهذا القول ليس منكراً عند أصحابه، بل هو مطلوب، وهو من المظاهر التي يفرضونها، ولا يغيّر من هذه الحقيقة أن يكون «الغنّوشي» قد أعلن في تونس أنّه سيُسمح بالسباحة بلباس (البكيني)، طلباً لاستدرار مافي جيوب السيّاح، وهذا أمر انفرد به قائد (إخونجي)، فهل هذا موافق للشريعة، أم إنّ الموافقة تكون بحسب صدورها فإن صدرت عن واحد من (الجماعة)، فالموافقة، أو الصمت، وإن تحدّث بها من ليس على دين (الإخوان) فهو كافر ضلّيل!!
لنتمعّن قليلاً في الدور السياسي للوهّابيّة التّكفيريّة، وسنجد أنّها تعلو بالسياسة، وتنخفض بها، فيوم كان المدّ العروبي القومي الوحدوي هو المتسيّد، أحنت رأسها، وخمدت، وحين وجدتْ فرصتها التي هيّأتها لها مخابرات العواصم المتصهينة، خرجتْ لتُثبت حضورها، فهي بالسياسة تقوم وتقعد، فهي سياسيّة الأهداف، (مذهبيّة) الوسيلة،
- 3 -
إنّ حركة الاخوان المسلمين، بتلويناتها التي فرضتها ظروف البلدان التي يسعون لبسط سلطتهم فيها، هي من أخطر الحركات على القضية الفلسطينيّة، القضيّة المركزيّة، والتي هي أساس كلّ الصراعات الداخليّة والخارجيّة الفاعلة في مرتسمها الدّولي،
لقد عجزت الرّجعيّة العربيّة التي كان لها حضورها الفاعل حتى منتصف خمسينات القرن الماضي عن تصفية هذه القضيّة، لاشكّ أنّها قد مهّدت، وكانت أداة في التآمر الخفيّ مع العواصم الغربيّة المنحازة لإسرائيل، وفعلت ذلك بسريّة، ماتزال بعض أوراقها ممنوع نشرها، بيد أنّها لم تستطع تصفية هذه القضيّة، وبعد أن وصل خطّ أوسلو كامب ديفيد إلى أفق مسدود، وأمام بروز محور المقاومة الذي بدأ يشكّل خطراً حقيقيّاً على هذا الكيان، اختار الخبث الغربي إضرام النّار في المنطقة، تمهيداً لبعثرتها، كخطوة مصيريّة في تأبيد بقاء هذا الكيان الصهيوني، وكان لابدّ من الأدوات اللآّزمة، والتي أحسنوا إعدادها، فاختاروا جماعة (الإخوان) لالمصداقيّتهم في الشارع العربي الإسلامي، بل لأنّهم سيواجهون النّاس بأنّهم حرّاس الإسلام، وحُماة القرآن، وينطقون باسم الدّين!! وفي هذا من التّكبيل، والتّقييد، مايجعل للناس جهة واحدة، هي الانصياع لأصحاب (الفتاوى)، وعبر ذلك يتسلّلون، ويضعون أيديهم على المساحات السياسيّة، والثقافيّة، والفكريّة، معتبرين أنّ كلّ مَن يخالفهم إنّما يخالف شرع اللّه، وعبر هذه الشّرعيّة، يقيم الدّعاة حكومات ديكتاتوريّة، مدعومة بتنظيماتهم السريّة التي أعدّوها منذ أزمنة بعيدة، وبروح (البلطجة)، وسوق النّاس بعصا الشريعة!!
الذي يجب أن يثير الانتباه والتّساؤلات المريرة هو أنّ إيران دولة إسلاميّة، تمكّنت خلال زمن قياسيّ من أن تُصبح دولة يُحسب لها ألف حساب، بجهودها الذّاتيّة، رغم الحصار، والمحاربة الغربيّة لها، وهي ترفع شعار تحرير فلسطين منذ لحظة ثورتها الأولى، فلماذا لاتلتقي العواصم المسلمة على مافي إسلامها من قيم، ودعوات للخير، لنُصرة أهل فلسطين؟!!
إنّ قدْراً من التّدقيق والمراجعة، يُبيّن أنّ الخلاف بين الجمهوريّة الإيرانيّة الإسلاميّة، وبقيّة العواصم الرّافعة لشعارات إسلامويّة، هو القضيّة الفلسطينيّة، فلماذا علينا أن ندير ظهورنا لمن لم يتردّد في جعل مسألة تحرير القدس هدفاً مركزيّاً، ونُقبل على الذين يذهبون بأنفسهم إلى الأنفاق الأوسلويّة؟!!
أليس التقاء جماعة الإخوان في مصر، وفي حماس، وفي تركيّا، وفي تونس، وليبيا، على الصمت عن كامب ديفيد لمجرّد أنّ الذي في السلطة هو من الجماعة، مع دعم كبير من عواصم النّفط العربي،.. أليس في هذا مايمهّد لمرحلة من التفرّد، والديكتاتوريّة، وكمّ الأفواه، باسم مايطلقون عليه (التّمكين)، وهو جواز مهادنة العدوّ، حتى نتمكّن من امتلاك العدّة والعدد، ويستظلّون بهذا الطّرح، بما فعله الرسول في صلح الحديبيّة، فيستغفلون العقل الجماهيري، باسم الإسلام، وباسم الإسلام، سيجدون أنّ الالتزام بالآيات القرآنيّة هو الأجدى، لاسيّما تلك التي يُمكن حرف معانيها لصالح العدوّ الإسرائيلي، انطلاقاً من « وإنْ جنحوا للسّلْم فاجنحْ»، الفتوى التي شكّلت مظلّة للسادات في فعلته، وستتّسع لغيره، ودليل ذلك الزيارة التي قام بها محمد مرسي لضريح السادات،وهي زيارة ليست خالية من أي دلالة،
إنّ أخطر مافي تحرّك (الإخوان) في هذا المجال هو أنّهم يرفعون القرآن بيد، والسيف بأخرى، وباسم فتاوى رجال دين لايرعون إلاًّ ولا ذمّة، ولا يخافون يوماً تتقلّب فيه الأبصار،.. بفتاوى من هؤلاء سيصفّون القضيّة الفلسطينيّة، ويؤسّسون لقيام دويلات ممزّقة فوق أرض هذا الوطن، ذات مواصفات مذهبيّة، وإثنيّة، وهكذا يكون (النّقاء) المذهبي هو القضيّة عندهم، لامصلحة الجماعة، ولا عزّة الوطن، ولا كرامة الأمّة،
لابدّ من ملاحظة مسألة جزئيّة، ذات دلالة كليّة، وهي بأن (حماس-مشعل) قد نشأت نشأة فلسطينيّة، واتّخذت ممّا جرى في أوسلو شاهداً على فساد من ذهب إليها، وهاهي الآن تلتقي على أرض واحدة مع الأوسلويّين، وجماعة كامب ديفيد،
لنلاحظْ أيضاً أنّ خروج (حماس) من خطّ المقاومة، يعني أنّها خرجت فقط، ولكنّ المقاومة ستظلّ متجسّدة في أماكنها التي لاتتزعزع،
- 4 -
من المهمّ أن نتنبّه إلى أنّ أخطار هذا التيار الثقافيّة، ليست أقل تهديداً، في العمق، من أهدافها السياسيّة، بل هي ستجعل من رؤاها(المذهبيّة) أحكاماً ربّانيّة قاطعة، وعلى الجميع أن ينصاعوا لأوامر اللّه التي يدّعون تمثيلها، وعليك أن تتصوّر مصير الفنّ، والموسيقا، والشعر، والإبداعات الجماليّة الأخرى، وسيكون عهد من الديكتاتوريّة لم تعرف له البشريّة مثيلاً إلاّ في بعض مقاطع القرون الوسطى في أوروبا،....
aaalnaem@gmail.com