وفي هذه العلاقة كان لا بدّ من تفخيخ الأطفال أولاً , ربما ليقوم هؤلاء الأطفال المفخخون في وقت لاحق بتفخيخ الألعاب مستهدفين جيل الأطفال الذي يليهم بالقتل . لكن المسافة بين الأطفال المفخخين والألعاب المفخخة ليست كبيرة في الواقع .
إن الربط بين نمطي التفخيخ يصلح في الواقع لأن يكون موضوع قصة أو رواية يمكن أن يتهم كاتبها بأنه إنسان خصب الخيال , أو أنه سوداويّ في نظرته إلى الحياة أكثر مما يجب . ففي قصة أو رواية من هذا النوع يجعل الأطفال ينقسمون بين قاتلين وقتلى !! . وتلك في حدّ ذاتها مشكلة كارثية حيث تخترق براءة الأطفال ليتحوّلوا إلى قتلة أو قتلى .
لكن فكرتي التفخيخ التي نتكلم عنهما هنا هما جزء من الواقع الذي عشناه , ولا مكان للخيال في صنعهما . فمنذ فترة قصيرة من الزمن , وقبل أن تظهر العصابات الإرهابية بكثافة في حي التضامن بمخيم اليرموك بأسابيع , اكتشف مستودع للعبوات الناسفة في محل لبيع لعب الأطفال يقع في وسط السوق بشارع فلسطين . ولم تقتصر غرابة الكشف على تموضع العبوات الناسفة في محل للعب الأطفال , ولكن في العثور على ألعاب مفخخة كانت تجلس في مواضعها على أرفف المستودع الداخلي بانتظار يوم يتم فيه الإفراج عنها لتكون جزءاً من أدوات القتل المضمرة لأطفال المخيم الذين يشكل الفلسطينيون قرابة الثلث من بينهم والثلثان تقريباً من العرب السوريين , مما يعني أن أطفال الطرفين كانوا في دائرة الاستهداف .
كنا في الماضي , وكلما ورد ذكر الألعاب المفخخة يخطر ببالنا على الفور أن العدو الصهيوني حصراً لجأ في حالات عديدة إلى إلقاء مثل هذه الألعاب مراراً وتكراراً من طائراته مستهدفاً الأطفال العرب وخاصة في لبنان . وبالتالي , برز لدينا الاعتقاد القائل بأن ألعاب الأطفال المفخخة هي أداة قتل صهيونية لم يعرف العالم مثيلاً لها غير المثال الصهيوني . ولكن , ها نحن نكتشف ألعاباً مفخخة داخل محل لبيع ألعاب الأطفال وسط مخيم اليرموك بدمشق !! .
قد لا نحتاج إلى الاجتهاد في استنتاج مصدر هذه الألعاب المفخخة . لكن المشكلة تكمن عملياً في أولئك الأشخاص الذين عملوا على تهريبها وإيصالها إلى المكان الذي وجدت فيه , أو كانوا يعملون على إيصالها إلى أماكن أخرى . وهنا سيخطر ببالنا نموذج أصحاب السوابق الجرمية , وسنفكر بأولئك الذين قادهم الإدمان على المخدرات إلى عالم الجريمة , كما سنفكر بتلك الشريحة التي تحدث عنها أسامة بن لادن ذات يوم قائلاً بأنها الشريحة المثالية للتجنيد في خدمة الإرهاب الذي تمارسه القاعدة , وهي شريحة الشباب العازبين ما بين سن المراهقة وحتى أواسط العشرينات من العمر . وبين هؤلاء الشباب بالذات سنجد ذلك النموذج القابل للتفخيخ والقيام بتنفيذ عمليات انتحارية , أو النموذج الذي يعدّ أو ينقل المفخخات حتى ولو كانت لعباً للأطفال ليقتل بها الآخرين .
تقول المعطيات المتوفرة لدينا إن عمل المتآمرين على إيجاد هذه الشريحة التي أسموها في خطتهم بشبكة الوقود , بدأ منذ سنوات عديدة . بمعنى آخر , فإن المتورطين معهم من شباب اليوم كانوا أطفالاً حين جرى تفخيخهم ليتحولوا إلى وقود . وكان المدخل للتفخيخ يتمثل في جلب الحبوب المخدرة , وتوزيعها مجاناً في البداية , ثم بأسعار رمزية بعد ذلك , مع افتعال فترات من توفر العرض أو ندرة العرض بما يسمح بتطبيق نتائج تجربة بافلوف على الضحايا . وفي غضون ذلك , تعرض الأطفال المفخخون لتجارب الحياة القاسية المبكرة : شجارات , سرقات , رسوب دراسي أو تسرب من المدرسة , فرار من أداء الخدمة الإلزامية . والأهم : العوز , والشللية العصبوية , والإدمان , والاستعداد لأي مغامرة مقابل تلبية الحاجة المباشرة .
وعلى هذا النحو , فإن الأطفال الذين فخخوا تحوّل بعضهم أو لنقل معظمهم إلى شباب ضائع . وهذا الشباب الضائع مستعد لتنفيذ أيّ مهمة بأجر , فكيف إذا كان الأجر أضعافاً مضاعفة : شيء من مال , ومخدّر فعال , وأداة اتصال , وسلاح قتال , وإعلام مضلل يصنفه زوراً بين الأبطال , ووعودٌ بقبر واقع التشرد العملي بجبل زائف من الآمال .
الذين لعبوا على مدى سنوات من الزمن لعبة التفخيخ للأطفال بدءاً من سنّ المراهقة هم أناس بعضهم يعمل في أجهزة مخابرات تابعة لدول عربية مجاورة , لكننا نستطيع القول بأنهم كانوا مزدوجي الولاء , بمعنى أنهم كانوا مرتبطين بالمخابرات الصهيونية أو المخابرات المركزية الأمريكية بالإضافة إلى ارتباطهم بأجهزة مخابرات بعض الدول العربية . ويمكننا أن نضيف إلى هؤلاء مهرّبين عاديين لعبوا دورهم في تفخيخ الأطفال المراهقين بدوافع مادية دون أن يدركوا الأبعاد السياسية الكامنة وراء هذا التفخيخ . ولكن حتى في هذه الحالة لا بدّ من وجود مندوبين لأجهزة استخبارات واصلوا استغلال العناصر المفخخة لنقلها إلى دائرة التوظيف في شبكة الوقود في الوقت الملائم . والواقع أن عملية التفخيخ لم تتوقف حتى بعد بدء الأحداث , فرأينا كيف استخدم سائل مفخخ في رش المتظاهرين في العديد من الأقطار العربية , وليس في سورية فقط , وكان هذا السائل يحتوي مادة مخدرة . كما دست الحبوب المخدرة بعد تحويلها إلى مسحوق في السندويشات التي تقدم للمتظاهرين . وكان من شأن استخدام هذه المواد التمكن من التحكم بالجمهور ليعامل كقطيع يتم تسييره وفق مفاهيم الظاهرة الجماهيرية كما تعرفها الخبرة العلمية لأنماط السلوك في الولايات المتحدة وتطبيقاتها في المجتمعات المختلفة . لكن الأخطر – بطبيعة الحال – تمثل في قدرة تنظيم القاعدة على تفخيخ ضحاياه ليحولهم إلى قنابل بشرية , حيث الغاية في هذه الحالة هي إيقاع أكبر حجم ممكن من الخسائر البشرية والمادية لقاء مصرع إرهابي واحد أو اثنين .
إن أهمية البحث في جذور المؤامرة وتاريخها الفعلي تكمن في الحاجة إلى معرفة اللاعبين الأساسيين الذين تمكنوا – ربما على مدى عقد من الزمن إن لم يكن أكثر – من إيجاد البيئة المفخخة التي قاموا باستغلالها في الوقت المناسب على النحو الذي يخدم أهداف المؤامرة , مع العلم بأن معظم عناصر هذه البيئة لم يكن ليخطر ببالهم قط أنهم موظفون في مهمة خطيرة , أو مفخخون من أجل تنفيذ مهمة خطيرة . فقد ظنوا أن كل ما حصل معهم هو أنهم تفاعلوا مع أحداث بدأت بشكل مفاجئ وأتاحت لهم فرصاً مفاجئة . ولو سئل أيٌّ منهم عن مسؤولية فلان عن تفخيخه في لحظة معينة وفي زمن قديم لاستثماره في زمن لاحق , فإن الأمر سيبدو له وكأنه افتراض تعسفي ما دامت وقائع تجربتهم قد سارت بشكل يبدو لهم طبيعياً للغاية , وليس فيه ما يشعرهم بوجود مؤامرة مسبقة كانوا ضحية لها وهم لا يشعرون . والواقع أنهم قد يكونوا على حق في هذا التصور . فالإدمان أو الانحراف لم يكن يكفي وحده لجرجرة بعضهم في دروب لم يكونوا يفكرون بعبورها أصلاً قبل بدء الأحداث . إن جملة العناصر الإضافية المتكاثفة التي دخلت دفعة واحدة على الخط هي التي جعلت الجسد المفخخ أكثر قابلية للوقوع في حبائل المتآمرين . ولو أن هذه العناصر الإضافية لم تظهر فإن صاحب الجسد المفخخ كان سيبقى في نطاق كونه يمثل مشكلة اجتماعية قائمة أو محتملة , لكن اقتحام تلك العناصر الجديدة المتكاملة من أدوات الحرب الكونية هي التي حوّلت نسبة لا بأس بها من أمثاله إلى ظاهرة سياسية , وذهبت بها في هذا السياق إلى أقصى ما يمكن تصوره , وهو اللجوء إلى ممارسة العنف الدموي والتدميري , الذي يقود إلى مقتل صاحبه في نهاية المطاف . فالجسد المفخخ هو في نهاية المطاف كالدمية المفخخة تدمّر نفسها إذ تدمّر الغير . ولو فكرنا قليلاً في المسألة لأدركنا أن مشكلة صاحب الجسد المفخخ أن إرادته قد تعرّضت إلى الاستلاب للحدّ الذي يجعله أقرب في تكوينه النفسي والعقلي إلى الدمية المفخخة.