تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


رواية العطر الفرنسي.. بين هندسة اقليدس والتخييل

كتب
الأربعاء 6-6-2012
باسم سليمان

لا ريب, فالإنسان كائن, رغم أنه ابن هندسة إقليدس إلا أنه منذ لحظة ولادته قطع حبل صرّته بصوانة الخيال وعقد بها مخلاة وجوده كمهماز للواقع.

صرخة التخييل‏

من هو علي جرجار!؟, ثالث ثلاثة في حزب” وطنك الكبير” مع رئيسه الرحالة المقعد حاكم عذابو وسعاد سعد والتي لم يُعرف عنها شيء أم أنه أحد أعضاء اللجنة السداسية لحي “ غائب” الشعبي مع حكيم النبوي وحليمة المرضعة وموسى وو.. أو خزنة تاريخ الحي حيث كان أهله يروون له حدثانهم لكي يتذكرها لهم فيما بعد أو يجيب عن أسئلة يرومها منه من يسكن الحي ويسمي الشوارع والحارات وبرك الماء الآسن سواء بأسماء الموتى أو الأحياء أو أنه نديم ميخا ميخائيل الذي بصق على القائم بأعمال الهجرة الاسترالي وصرخ لمن أترك هذا الحمل الكبير من الذكريات أم أنه العريس الدائم الذي وعد جل نساء الحي بالزواج منهن؛ هذا بعض علي, الذي يدرب ذاكرته يومياً؛ لتبقى نشطة ولا يناله التخريف في سنه المتأخرة بأن يتذكر حوادث قديمة جداً, لحذاء اشتراه وذبابة سقطت في كأس شاي ويحبس عضلات مثانته ويريحها هرباً من مضاعفات ستصيب ذكورته .. ما ذكر يشبه محفظة علي التي نشلها منه أحد السارقين وظلّ علي يضحك حتى دمعت عيناه وهو يتخيل السارق وهو يقلب بالطبقات العشرين للمحفظة ولا يجد شيئاً!؟؛ الأهم في علي أنه كان صاحب صرخة حرية التخييل” والتي انتشرت في طول البلاد وعرضها ولم يدفع له أحد ثمن الحقوق الملكية الفكرية لإبداعه هذا؛ عن طريق التخييل كان علي يرطب قيظ الوجود ويدهنه بزيوت؛ غداً يستحق أن نعيش له, ليستمتع بصرير بابه وبشرب خمرة آل من الجان وتقرقر معدته ويتعرق عندما يمر بسلافة الجميلة ويفاوض بائعة الشاي على باب المديرية على عدد قيراطات الذهب في خاتم الزواج ويجد به موسى الشخص المناسب لينقل خبر قدوم “كاتيا كادويلي” الفرنسية لزيارة حي “ غائب” وليجهد نفسه في سرد الخبر وينهيه بأن كاتيا ستذكركم بالخير!؟ ويرن دون رصيد ويُرن له!؟ .‏

الترياق‏

كاتيا كادويلي كانت المفصل الذي غيّر حياة علي منذ لحظة سماع خبر قدومها بل غيّرت الحي وقدحت بذهنه فكرة تزييت مفاصل باب بيته ومفاصل أبواب الحي حتى آل الجان نزّ الزيت من خرابتهم وأيضاً, من أنسب منه ليكون زوجاً لها, لذلك طلب من أيمن الفتى اليتيم الذي رباه الحي, أيمن الحضاري الغارق في شؤون النت والذي أفهمهم معنى “ الياهو “ ومحرك البحث “ غوغل” أن يبحث له عن كاتيا هذه. تدفقت صور “كاتيات” ثلاث وكانت نجمة قدره كاتيا الممرضة صاحبة لقب الملاك, الحائزة عليه من قارة أفريقيا عندما اكتشفت أن دواء الملاريا مغشوش ونجمة القدر للحي, فقد مات حكيم النبوي وهو يكتب لها قصيدة ورفعت على المحلات أرمات باسمها وأحزنه أنه لا يملك شيئاً يطلق عليه اسمها لكن هو لها سيجد مولوداً أو زقاقاً ليسميه.‏

كاتيا تأخر قدومها واصفر ربيع انتظاره, فرؤساء وملوك القارة السمراء يستبقونها عندهم وعلي يضيق عليه الزمن كخرم الإبرة, فيستنسخ صورها بجميع حالاتها ويقرر الزواج بها ويتزوج ويذهل الحي لكن يعتاد على علي وحتى أن حليمة المرضعة تنبأت بحملها وأخذها علي لكل الأماكن وبدأ يغار عليها وصورها تبهت بين يديه, فالكل يريدها إلى أن يمسك عصاه وسكينه ويضرب بها يميناً وشمالاً إلى أن يغرز سكينه في أحشائها.‏

ما بعد الحكاية‏

يسرد تاج السر بالكناية والإيحاء والتلميح وكأنه بذلك يستحضر مكر الحياة في وجه أمواتها, فهو يدرك حقل الألغام المقدس الذي دخله والذي لا ينفع معه السير المستقيم ولا المتعرج والترميز بل بالمكر حيث يجد المسجون دوماً سبباً للعيش والأمل ولو كان مجرد نافذة مسورة بالقضبان لا يرى منها الشمس بقدر ما يرى صدى النور, هذه الطريقة السردية تكمن في نقل السرد الحياتي اليومي البسيط لكن الذي يحمل جوهر الوجود, فالحياة لا تعيش بالنظريات ولا بالكلمات المجردة بل بالسخرية المتفتحة تهكماً والتهكم هنا ثورة في قلب التغير, فكاتيا ما هي إلا صدمة الحداثة في حي يمتد على وجه القارة الأفريقية ومن خلال علاقة علي بصورة كاتيا وعلاقة المجتمع من حوله بخبر قدومها يقدم دراسة جيولوجية اجتماعية نفسية عقائدية لهذا الحي الذي غزته حداثة القشور دون الجوهر, فراح يهيم على وجهه, يرن للعالم أجمع من خلال موبايل بلا رصيد!؟.‏

جذمورية متناوبة:‏

الجذمورية وفق أمبرتو إيكو, هي الرواية التي تتضمن آلاف القصص ولكن لدينا جذموريتان الأولى عادة ما تكون خطوطاً متقاطعة مع الخط الأساسي للرواية والأخرى عشوائية كاشتجار النار, يختار تاج السر الثانية, فالرواية هي رواية علي جرجار بلسانه وهو صاحب “ صرخة التخييل” والاختيار هدفه تدعيم الحوارية الباختنية بين صوت علي وصداه ومحيطه لكي يتم التخييل كقدم في الواقع وقدم في الممكن, هذا ما جعل السرد لا يتوقف عن تقديم الدهشة والمفاجأة في تطور الأحداث فلم يكن هدف السرد النهاية بل ذاته فقط ككائن حي يعيش تحت مسمى علي جرجار.‏

في الأسئلة‏

التخييل كترياق؛ فهل عندما نتجاوز الجرعة المناسبة منه يقتلنا!؟. هل الحداثة يمكن استيرادها أو أن تكون علاقتنا بها كعلاقة أيمن الحضاري من وراء شاشة !؟. بين الاستعمار التقليدي وما بعد الاستعمار, هل تحررنا حقاً أم أن الأمر لا يعدو أن تلبس بنطال جينز وحذاء “باته” وتزيت مفاصل باب بيتك الذي يصر!؟ كم من المقدسات علينا كسر أصنامها, لنكتشف أن دواء الملاريا ماهو إلا تجربة مخبرية على شعوب العالم الثالث!؟ متى نتوقف عن نكون موضوع استشراق ونحاول أن نستنسخ حضارة لن تخرج عن أبعاد الصورة !؟. أسئلة كثيرة يسوقها أمير تاج السر بحرفية كأنها الحياة والحياة لا تقدم نفسها بسؤال وجواب بل بحياة حقيقة فاعلة.‏

العطر الفرنسي رواية ل أمير تاج السر صادرة الدار العربية للعلوم ناشرون طبعة ثانية لعام 2012‏

Bassemsso91@gmail.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية