تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


روضة« دار الحنان»...

آراء
الأربعاء 11-11-2009م
جلال خير بك

أنهت جرافات محافظة دمشق تاريخاً طويلاً لمبنى قديم ربما يجب تصنيفه بين المباني الأثرية في منطقة زقاق الصخر- مواجه المدينة الجامعية- وأنهت بذلك ذكريات مديدة لكثير من الأطفال الذين صاروا رجالاً بعد أن أمضوا سنوات عديدة على مقاعد«روضة دار الحنان»في هذا المبنى القديم...

وقد درس ونما وتعلم في هذه الروضة، أبناء وشرائح عديدة من الناس ابتداء من أطفال الحي وانتهاء بأبناء العديد من المسؤولين في ذلك الزمان وحتى تاريخ هدمها.‏

ومبنى روضة دار الحنان هذه: جاور وعايش وتزامن مع الأبنية التاريخية في هذه المنطقة مثل بيت البارودي وبيت «الدكتور خير» وبيت السادات الذي رمم وتحول إلى بناء فخم جميل، وبيت أبي خليل القباني الذي صار أنقاضاً متهالكة وبيت أو قصر الغزاوي الذي استملكته وزارة السياحة وجعلته مقراً لدوائر تابعة لها!!... وبيت القربي وبيت الصلاحي الذي غدا هو الآخر شبه أنقاض!!.. وبيت قديم أثري‏

«فيلا-قصر» ملاصق لبيت « الدكتورخير» واللذين محيا عن وجه الأرض وارتفعت مكانهما بنايتان سكنيتان تجاريتان!!‏

والمثير للأسف والشجن أن مبنى الروضة تلك قد أزيل من الوجود تمهيداً لبناء« حديث!» سيكون روضة تعود ملكيتها وتبعيتها لمحافظة دمشق كما قال الأهالي وضمن بناء لا ندري ماذا ستكون صفته العمرانية«والاستثمارية التجارية»!!‏

لقد سمعنا عن المحافظة آراء عجيبة عن طبيعة الاستملاك واستملاكها. في منطقة زقاق الصخر تحديداً... ولا ندري ما هي « المصلحة العامة» في إزالة هذا البناء الجميل القديم وإشادة مبنى آخر مكانه فيه روضة!!... فعدا عن قيمته المعمارية، هنالك ألف سؤال وسؤال عن ذلك التوقيت السيء لهدمه والاطفال بين جنباته وقد مضى على بدء العام الدراسي شهور!!.. عدا عن ذلك ثمة مسألة إنسانية بعد إزالته وثمة ذكريات لا تنتهي لكل طفل ثم رجل: درس وتعلم في هذا المبنى الجميل... وعدا عن ذلك أيضاً: هنالك سؤال لابد من ذكره إزاء «مصائب وبلاوي» الاستملاك التي تمتد عقوداً طويلة حتى يكاد الناس ينسونه!!‏

وبأي حق تضع المحافظة أو حتى أي جهة عامة: يدها على أي بناء قديم أو قطعة أرض ثم تنساها عقوداً وعقوداً ثم فجأة تحيلها إلى ركام!! بينما تنحصر أحقية الاستملاك في كونه ذا نفع عام: فما هو النفع العام مما حصل؟؟!!.. وإلى متى يحق لقرار الاستملاك أن يظل ساري المفعول ومعطلاً لشؤون المواطنين خاصة وأن هذا « النفع العام يمتد زمنه إلى قرابة نصف قرن؟!! أفلا يجب أن يلغى هذا الاستملاك بعد مرور خمسة عشر عاماً كما تقول الأنظمة والقوانين؟!!‏

لقد أرهقت أعصابنا الجهات الرسمية المتعددة التي تنادي ليلاً ونهاراً: بالحفاظ على المباني الأثرية والملامح العمرانية القديمة التي تشكل جزءاً من الذاكرة الجمعية والوجه الحضاري العمراني للمدينة... وإذا كان كذلك: لماذا ترك بيت أبي خليل القباني في زقاق الصخر هذا « غربي بيت الغزاوي والقربي»: حتى انهار؟؟!!.. أم ولم يكن الحفاظ عليه وترميمه وجعله متحفاً« خاصة وأنه كان يحتوي على صور له كبيرة وعلى أغراض أبي خليل كاملة بما في ذلك أثاثه المنزلي وأشياءه الخاصة»... ألم يكن ذلك أفضل من استملاكه لوزارة السياحة التي لم تستفد منه بل تركته لعوامل الزمن وعبث العابثين حتى تحول إلى بقايا بيت حيث انهار سقفه وتداعت جدرانه وسرحت فيه القوارض؟؟.. ألم يكن من الواجب إلغاء ذلك الاستملاك بعد مرور هذا الزمان عليه؟؟!!.. ألم تكن محافظة دمشق ومديرية الآثار: معنيتين بالحفاظ عليه وعلى بيت «الدكتور خير» العتيق وعلى الفيلا الأثرية التي كانت بعده؟؟!.. ألم يكن الإبقاء على هذه المعالم خيراً من إزالتها ومن إعطاء رخص بناء كي ترتفع مكانها مبان سكنية تجارية؟؟!!‏

لقد عانى زقاق الصخر ووادي كيوان تحته: من تلك اللعنة الأبدية التي تسمى استملاكاً. فقد كان هذا الاستملاك الجائر لا يقدم شيئاً بل أساء إلى الذاكرة الوطنية ومعالمها القديمة... وحده بيت السادات نجا من هذا الاستملاك الغريب ورمم وصار بناء فخماً بعد أن قيض له تداركه وجعله تحفة معمارية جميلة.‏

أما وادي كيوان فقد عانى أكثر من ذلك. وتركت هذه المنطقة الخضراء التي كانت تحتوي على مبان قديمة: حتى أكلها الدهر وحولتها الأيام إلى منطقة جرداء قاحلة بعد أن كانت جنة تمور بالحياة وتغذي مناطق كثيرة من دمشق بالخضر والفاكهة والحليب والألبان والأجبان...‏

وتناوبت عدة جهات رسمية على الظفر بها بعد أن استملكتها وزارة السياحة وبعد خلوها وتحولها إلى مكب أنقاض حى استقر الرأي أخيراً على«منحها» لشركة تجعل منها منشآت سياحية!!.. أين مبانيها القديمة؟ وأين أشجارها وفاكهتها وأين بساتينها ومشاتلها وأشجارها المعمرة الوارفة؟؟... ذلك كله تحول إلى ذكرى كيما نقيم فيها منشآت سياحية!!!... وأين حقوق أهلها التي غمطت وصارت في خبر كان!!‏

لقد أتخمونا سابقاً ولاحقاً بالحديث عن المباني القديمة والحفاظ عليها.. ومع ذلك أزيلت جميع قصور البحصة وساروجة وهي لا تبعدإلا خطوات عن مبنى محافظة دمشق!! ولا تبعد إلا قليلاً عن مقر المديرية العامة للآثار والمتاحف!!... لم يحدث ذلك وما هي«الفائدة» العامة الوطنية والقومية منه؟؟!!‏

حيث صدور هذا العدد من صحيفة الثورة تكون روضة دار الحنان وبناؤه العتيق: في ذمة الله!! بينما ما يزال عنوان الحفاظ على المباني القديمة: يصدع رؤوسنا.. وإذا تجاوزنا ذكريات الاطفال والناس وذاكرتهم في هذه الروضة وعنها.. لابد أن نسأل: أية حكمة كانت وراء هدم مبناها؟؟... ومن هو المستفيد من وقوع ذلك؟؟!!.. أهي محافظة دمشق؟!.. إذن فلتلغ شعارها الذي ترفعه باستمرار عن: الحفاظ على النسيج العمراني لدمشق وأطرافها القديمة ما دامت جرافاتها ومعاول عمالها ترتكب مثل هذه الأعمال القاسية في حق دمشق ابتداء من الهدم الذي سيطال الأبنية القديمة في شارع الملك فيصل، وانتهاء ببناء روضة دار الحنان والحبل على الجرار !!!‏

لقد كان مؤلماً جداً منظر بناء هذه الروضة التي أزيلت من الوجود منذ الصباح الباكر ليوم الخميس الماضي. وقد أفاد السكان أنه بعد دخول الأطفال إلى غرف صفوفهم فيها: جاء موظفو المحافظة وعلى رأسهم مدير التنظيم العمراني: وأخرجوهم من الروضة ووضعوهم في البناء القريب حتى أتى الباص وأقلهم إلى بيوتهم بين دهشتهم وهلعهم مما يجري- وحزنهم الشديد على بناء روضتهم التي حضنتهم...‏

وقد أفاد الجيران أيضاً إن السيد مدير التخطيط العمراني في المحافظة لم يغادر المنطقة حتى وقت متأخر من ليل ذلك اليوم ليتأكد من أن كل شيء فيها قد أزيل تماماً ورحلت أنقاضها على عجل!!!... وشوهدت بأم العين أبواب الروضة وأبواب غرفها ملقاة على حيطان منازل الجيران!!!.. وزاد في الأسى أن الحائط الشرقي للروضة « والذي هو حائط الباحة» قد بقي لأنه حائط الجيران وعليه صور ورسوم الأطفال أيام كانوا يثغون بين جنبات هذا البناء الحزين الذي لم يبق له أثر!!‏

وإذا كنا سنعمر مكانها روضة جديدة: لماذا أزلناها وهي مبنية من الحجر المتين وعلى الطراز العربي الاسلامي وتستطيع أن تصمد أمام تحديات الطبيعة إلى اخر الزمان!!!‏

لقد قرأنا أن المحافظة أنذرت الإدارة أو المالكين منذ فترة رغم نفيهم ذلك.. لكن كان من الأفضل لو منعت المحفظة أن تعمل الروضة هذا العام الدراسي وقبل بدايته... فما هي الحكمة إذن من أن نترك الأطفال يسجلون فيها هذه السنة ويداومون في صفوفها أكثر من شهرين ثم نخرجهم قسراً ونهدمها أمام عيونهم الحزينة ونقتل في هذه العيون البريئة كل ذكرياتها وألمها بعد أن تفرق الرفاق والأحباب في لحظة قاسية؟؟؟!!!‏

إن أشد القلوب قسوة: يلين أمام عيون الأطفال وما لانت جرافات ومعاول عمال المحافظة أمام هلع الأطفال وذعرهم ودموعهم الحزينة... هل هي قسوة؟ نترك للسيد المحافظ حق تقدير ذلك... ولن تنجز المحافظة « الروضة الجديدة العصرية!» حت يصبح أولئك الأطفال رجالاً!!.. فأي ذكرى تركت لها في نفوسهم البريئة؟! وأي ذنب اقترفه هذا البناء الجميل العتيق حتى يحل به ما حل من قسوة وعدم الشفقة؟؟... لقد سمعنا في زقاق الصخر روايات يرق لها الحجر... لكن أين قلوب« المحافظة» من هذه المشاعر الرومانسية؟!!... من لا يصدق فليزر تلك المنطقة وسيكون صاحب فراسة إذا عرف أنه كان على تلك الأرض بناء يضج بثغاء الزغاليل ويحكي تاريخاً عمرانياً مديداً!!!.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية