NEWS15/M10/D09/16-1.jpg
إنه ما فعله كُثر من كتاب العالم، ومنهم «فريدريك تريستان». الأديب الفرنسي الذي أوجز كلّ ما يمكن أن يقال عن هذا الواقع، عندما وصفه بـ «دوامة المجانين».. أبناء الحياة، ممن عكس ومن خلال حواراته الخيالية والواقعية معهم، طيبتهم مثلما وحشيتهم، معتبراً بأنه ومثلما هناك جهلٌ هناك عقلٌ، ومثلما هناك قتلٌ وإجرام هناك آمال وأحلام، ليبقى الموت هو النهاية الأكيدة التي لم يجد سبيلاً لمجابهتها، إلا بروايته وهِوايته.
«هوايةٌ وحيدة تساعده على تحمّل اضطراب الحياة ورتابتها، كأنها تتيح له بطريقةٍ ما، أن يحيا حياة ثانية. إنها هواية الكتابة، التي كان يمارسها سراً، وعندما يكون وحيداً في غرفته، بعيداً عن الناس جميعاً»..
لاشك أنها الدوامة التي جعلت بطل روايته:»هوغو» أو الرجل الثلاثيني الذي يعيش وحيداً ويعمل في ورشة لتحنيط الحيوانات. جعلته مثار دهشة الآخرين وسخريتهم، ودون أن يخطر لهم، بأن ما كان يسعى إليه ليس إلا مواجهة ما يتخبطون فيه من واقع كارثي، وبأشياءٍ استعارها من طفولته وأحلامه وجنونه لطالما، كلّ ما كان قد قرأه في حياته، لم يمكِّنه من فهمِ واقعٍ كان بحاجة لأن يقرأ ما فيه من الأحاجي:
«أحاجي وحكايا زاخرة بالقصص البربرية، ملاحم أوديسية» أي أنه، كان بحاجة لأشياء تشبه الواقع الذي سعى لسبرِ أغواره، بعد أن انطفأت أنواره..
هذا ما تدور حوله الرواية التي استهلها:»تريستان» بخبر نُشر في جريدة «الفيغارو» عن مقتل الرئيس «جون كيندي» أثناء جولة سياسية في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. الخبر الذي بنى عليه روايته، دون أن يتقيد بما قاله الإعلام عنه، وإنما بما يمكن أن تقوله شخصياتٍ، أرادها تقرأ الواقع وتحلله بعد أن تنبش في خفاياه وتُبدي رأيها بواقعية-غرائبية.
إنها الشخصيات التي كان يتماهى معها، ويتقمّص أدوارها ويحاورها، جاعلاً لكلٍّ منها قريناً يسكن في داخله، يتَّخذه شاهداً ومحللاً، قد يوافقه الرأي وقد يتشاجر معه فيخاطبه:
«بحثتُ طويلاً عن روحي، أمن الممكن أن أكون قد خرجتُ من مسرح الشوارع هذا، حيث يتمُّ عرض رواية تافهة على خشبةٍ مهترئة، أو من مسرحية كتبها كاتبٌ رديءٌ أو لاوجود له..».
باختصار.. هي حكاية عصرٍ، لم يرد الكاتب أن يراه من منظورٍ واقعي، وإنما تخيُّلي.. عصرٌ، شعر وهو يشيّعه عبر روايته، بأن هناك من يستحق العيش فيه، وبدلالة كلمته:
«لو لم يحافظ البعض فيه على رؤوسهم المرفوعة، لكان المجتمع مجرّد نفاياتٍ لحمية بلا دماغ»..
نعم هي رواية هكذا عصر، وقد قدّمها كاتبٌ خبرَ الحياة جيداً، فسخّر هذه الخبرة في خدمة روايته.. «دوامة المجانين» التي كتبها بعد تنقله بين دولٍ شرقية وقبائل هندية، منحه التعامل مع أفرادها، القدرة على قراءة ما وراء الحياة بحكمةِ مفرداته وشاعريته.. الشاعرية التي لم تمنعه ورغم تأثره بشخصياته، من السعي لإقصائها والتحكم بمصائرها، وبعد أن استشعرها تمتهن النبوءات، فترى الشمس في العقول وتقول:
«ماذا تنتظر حتى تأخذ الدور البارز الذي ينتظره عصرك منك؟!.. يجب أن تخلّص العالم من منمِّقي الكلام.. من المشعوذين.. من المضلِّلين الماكرين الفاسدين..».
هي أيضاً رواية النقمة، أراد الكاتب أن يصفع بها كل منطقٍ غبي. رواية البصيرة الثاقبة، لا التحليلات أو التخمينات المنمّقة والكاذبة.. رواية العقل، يبحث عمن يصحو من غفوته ليقرأ، وعن عالمٍ غادرته الأحلام بعد أن بات «التعفن فيه حتى نقي العظام».
في النهاية نقول..
«فريدريك تريستان» شاعر وأديبٌ فرنسي، كان أستاذاً في علم الأيقونات في معهد «كاريير-باريس»، وقد حاز على عدة جوائز أدبية منها جائزة «غونكور». له الكثير من الأعمال، ومنها:
«دوامة المجانين» ترجمة «سهيل أبو فخر» ومن إصدارات «دار علاء الدين»..