إلى التفكير ملياً في كيفية التورط أكثر في الحرب على سورية علّه يفرض نفسه لاعباً إقليمياً ودولياً إلى جانب بقية القوى الأخرى، وقد وجد في الخطر الكردي المزعوم على أمن تركيا ــ كما يدعي ــ بيضة قبان سياسته التوسعية لحكم تركيا طويلاً وتوسيع نفوذه في المنطقة، بعد أن خسر معظم أوراقه الإخوانية لاستعادة «أمجاد» السلطنة العثمانية البائدة في السنوات الماضية.
يرى البعض أن قرار الانسحاب الأميركي المفاجئ من الشمال السوري ــ وهو بالمناسبة قرار متخذ منذ العام الماضي وقد ماطلت به إدارة ترامب قرابة العام إرضاء لبعض حلفائها في المنطقة ومنهم الكيان الصهيوني والنظام السعودي ــ هو هدية مسمومة وملغومة للرئيس التركي الذي نسق كثيراً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حساب علاقته التحالفية مع واشنطن، فالرئيس الأميركي الذي يتقن الصفقات وجمع الأموال اكتشف أن بقاء قواته في الشمال السوري لا يحقق له أو لبلاده أي مصلحة، ولاسيما أن هذا الوجود غير شرعي إلى جانب أنه مرفوض من قبل سورية وحلفائها الذين يملكون زمام المبادرة على الأرض، وسيواجه في لحظة ما بعمليات مقاومة تستنزفه وتؤدي به في نهاية المطاف إلى الخروج المذل وبتكلفة غير محتملة، لذلك وجد أن أفضل طريقة لضرب العلاقة المزدهرة بين موسكو وأنقرة، وتعطيل مفاعيل الاتفاق على لجنة مناقشة الدستور التي تم تشكيلها مؤخراً، هو الانسحاب وتمكين النظام التركي من التدخل وملء فراغ هذا الانسحاب الأميركي، بحيث يكون عامل توتر وتصعيد جديد بين سورية والنظام التركي لا يستطيع حليفا دمشق ــ روسيا وإيران ــ أن يقفا حياله مكتوفي الأيدي ولا سيما بعد أن اتفقا مع رأس النظام التركي على احترام وحدة وسلامة الأراضي السوري، وطالبا مرات عديدة بضرورة خروج كافة القوات الأجنبية من سورية، والمقصود هنا القوات الأميركية والتركية لأن القوات الروسية موجودة بشكل شرعي بناء على اتفاق مع الحكومة السورية.
الرئيس الأميركي الذي يتقن عقد الصفقات لن يغفر لأردوغان صفقة الـ»اس 400» التي تم توقيعها مع موسكو، والتي أدت إلى توتر في العلاقة بين حليفي الناتو واشنطن وأنقرة، فما المانع هنا من أن يتورط أردوغان أكثر فأكثر ثم يخرج في نهاية المطاف ــ كما كل معتد ومحتل ــ خاسراً كما حدث مع الأميركيين في حربي العراق وأفغانستان ومناطق أخرى، وقد رأى ترامب في تغريدات له في الأيام الماضية أن حروب بلاده في المنطقة سخيفة ومكلفة جداً ولا تأتي بأي نتيجة، ثم ما الذي يمنع ترامب من التضحية بالميليشيات الكردية الحليفة لبلاده طالما يساعده ذلك في الانتقام من النظام التركي الذي فضل موسكو على واشنطن وبالغ في التقرب منها عسكريا واقتصاديا على حساب العلاقة مع واشنطن وعلى حساب حلف الناتو، وقد شاهد العالم كيف يقوم ترامب بابتزاز حلفائه الخليجيين مالياً والتضحية بهم عند كل مناسبة كما حدث بعد هجومي أرامكو ونجران.
من الواضح أن واشنطن تحت إدارة ترامب تريد أن تنسحب من الشرق الأوسط بعد أن دمرته بالحروب والنزاعات والفوضى «الخلاقة» التي جاءت بها وحمى «الربيع العربي» التي نشرتها، بحيث بات يحتاج إلى سنوات طويلة كي يستعيد عافيته واستقراره ويعيد ما تهدم في بنيانه، ومن الواضح ايضاً أن سيناريو الفوضى الأميركية لم ولن ينتهي عند هذا الحد، بحيث تم نقل تنفيذه ــ أي سيناريو الفوضى ــ من عهدة الجماعات الإرهابية التكفيرية المدعومة أميركياً إلى عهدة واشنطن وحلفائها في مرحلة لاحقة واليوم بالانسحاب الأميركي الملغوم من شمال سورية والرغبة بالخروج من أفغانستان تنتقل عهدة الفوضى إلى حلفاء أميركا مرة أخرى، فالنظام التركي الذي كان مطلوباً منه مع بداية الأزمة في سورية أن يتدخل عسكريا بجيشه الجرار في سورية، ثم اضطر للانكفاء والتراجع بسبب التكلفة الباهظة والمتوقعة لمثل هذا التدخل، سيجد نفسه مضطراً تحت ضغط أجنداته الإقليمية وأطماعه التوسعية وحساباته الضيقة لخوض حرب جديدة ودخول مستنقع جديد لن تكون تركيا وأمنها القومي بمنأى عنه.
أردوغان لم يتخلص بعد من إرث السلطنة العثمانية البائدة والمتخلفة، إذ ما زال يتدخل في ليبيا ويدير الشغب عبر عملاء له في مصر وأماكن أخرى، ولعله يعتقد اليوم أنه يستطيع حل بعض مشكلاته الداخلية في سورية، ولكنه جاهل وأرعن لا يتعلم من دروس التاريخ، وهو بحاجة ماسة لدرس قاس يعيده إلى وعيه واتزانه رغم أن أمثال اردوغان المجبولين بالغطرسة والصلف لا يمكن أن يتعلموا من دروس التاريخ. ربما هي فرصة حقيقية اليوم للتخلص مما تبقى من الإرهابيين التكفيريين العملاء لأردوغان في إدلب، وبعد ذلك سيكون مصير الشمال السوري كمصير باقي المناطق السورية التي تحررت وأصبحت خالية من الإرهابيين والغزاة على اختلاف تسمياتهم وأطماعهم الخبيثة وأجنداتهم العدوانية.
دمشق الواثقة من نفسها ومن انتصارها على الارهاب وداعميه ومن خياراتها السياسية تراقب بهدوء ما سيجري في الشمال، وسيكون عندها لكل مقام مقال ولكل حدث الموقف الذي يتناسب معه وما على المخطئين بحقها أو المعتدين على سيادتها سوى أن ينتظروا ردها المناسب والحازم، فهذه أميركا الدولة العظمى جربت حظها في المستنقع السوري وبدأت بلملمة ذيولها، فماذا يتوقع الحاقد الطاغية أردوغان؟ إذ لا أمل بإعادة عقارب الساعة للوراء.