وتحدث عن «عشق الآلهة»، و»شموس الغجر» وفتح «أوراق المنفى» وهي شهادات قاسية وجارحة عن زماننا العربي المخيم فوق أرواحنا المستلبة، زمن العار والتفكك والزيف، وهو ما يؤكده في مقدمة كتابه «أوراق المنفى» حين يقول: في فسحة الحياة والموت، كان علي أن أواصل سيرة الحياة وسيرة الكتابة، بالكتابة ربما أتوازن وأنا أترنح، مولداً من الكلمات هرمونات مضادة للموت والجنون وضراوة الحنين إلى المنفى، لقد أتى زمن النار وزمن القتل، زمن الهول، نسير في الخطر، وننام في فراش الخطر، ونكتب في جفن الردى والردى حي لا يموت.
وعن «الزمن الموحش» يكتب الروائي المتميز بعد نكسة حزيران 1967 روايته التي شكلت انطلاقة للرواية العربية بعد الهزيمة، وقدم شخصياته وأفكارها كما هي في شكلها الواقعي العشوائي، ولعله زماننا الذي توقعه حيدر حيدر، وفي المقدمة يجهز مراسيم دفن للزمن الموحش بكلمات لشاعر من أفريقيا يقول فيها: (أريد أن أنسى الزمن العاري والقاتل.. زمن العصور الأولى.. زمن الفصام بين السرة والتاريخ.. زمن الصلات المشتتة.. زمن الحياة الزائفة والدموع والقلق، الزمن الذي أرغمنا فيه على اختراع أذن ثالثة لكي نصغي بها إلى ما يقوله قضيب الزمن وهو يدق رؤوسنا بقوته الشرسة.
لكن.. يبدو أن ذاك الزمن لم يدفن ولعل الروائي حيدر حيدر استشرف المستقبل، فرأى بأذنه وعينه الثالثة أنه يصلح لكل السنين العجاف في الصحراء العربية.
دمشق في الزمن الموحش
تحضر دمشق بقوة في «الزمن الموحش» التي سكنت الروائي فتلبسها في شخصياته فتارة يراها سكينة تنحل في النفس والبدن، فتكاد تنسي كل ابن أنثى كوخه الذي هجره فينسل الماضي كما تنسل روح على مهل.
دمشق مدينة ككثير من مدن العالم، عمارات من حجر وشوارع يعبرها الناس والسيارات أماكن خاصة وعمومية، بيع وشراء، لكن الوجه الآخر يغفو تحت الجلد الظاهر، يشف ذلك الجلد يغيب الإنسان عن سطوح أشيائها ويهيم في ليل صامت شفاف.
أما ليل دمشق عنده فهو: مسرة خصوصية داخله تسوح تحلم.. تتذكر وتحزن ترسم في فراغه الحميم ما تشاء من الصور مشيداً جمهوريات من فرح وعدل، وعلى مدى كثبان الأماني ترتفع عبر هذه الليالي في صحاراك وصحارى الآخرين.
وتبقى دمشق تلوح وجعاً متشحاً بالأسى يغطي سهول النفس، ينعكس على وجوه الناس وعلى الأيام، يقول سامر البدوي وهو أحد شخصيات رواية «الزمن الموحش»: وأنا بعيد عنها أي دمشق أشعر بشوق صوفي إليها تسكن الدم والعصب كأنما استعصى على الشفاء.. عندما كنت في بيروت وددت أن أعدو نحوها على قدمي، ثم لو مت غبّ وصولي فوق ترابها لما ندمت، أي مدينة في العالم لا تعوض عنها.
دمشق امرأة طويلة طويلة، ممتلئة نضرة ثمة شيء تحسه ينتظرك أبداً في مكان ما فيها وهي قطب العالم ومن عرفها مرة تسكنه كالوباء.. طعم ريح دمشق مر وعذب ودمشق حب مسكون استوطن الضلوع، أحسه يخفق في حفيف الأوراق في الأضواء في الحجارة، في النساء والماء، في الصوت والصمت، دمشق جنون أبدي يحيي ويميت، دمشق مدينة الوجع ومدينة ألف ليلة وليلة.. مدينة مسحورة تلتف حول بنيها كاللبلاب تحنو عليهم تطعمهم وفجأة في ليل دامس تخنقهم بلا مقدمات.. الطريق نحو دمر بيروت مفتوح ومشجر يخلق شعوراً بالانطلاق والهرب على جانبه الأيسر يتأود بردى داخل أبدية ثابتة بين ظلال الحور والصفصاف، وفي الأيمن قاسيون العاري وراءنا دمشق التي تعرت لكل الغرباء، وظلت دمشق والذين سموهم الهكسوس الجدد ما زالوا يقيمون فيها.. همجيون وخطاة لكنهم يبدون أكثر انغراساً في جسد الأسئلة.
وتبقى دمشق عند حيدر حيدر الأرض والجذر المتشبث العصي على الاقتلاع، فهو يبحث بدمه وروحه عن شجرة جديدة تطلع من هذا الجذر فعلاقة الإنسان بالأشياء تبدو أحياناً عصية على التفسير، هكذا أنا ودمشق وجميع من استوطنها طويلاً.
للوقت حزن للرعد حزن.. من ملحق رواية حيدر حيدر وفي نثريته يقول:
حزينة كانت المدينة
وفي خاصرتها جرح
سألت الجرح أهذا زمان السبي، زمان التيه
هل عصر العربي يولي، وهل أذنت
شمسه على الأفول؟
طويل هذا الليل طويل
والفصول بطيئة.. بطيئة
فهل احتُل الزمن أيضاً
ضيقة مفارق الدروب
والغضب ضاق
حزيناً وعميقاً أتانا صدى الجرح
للحزن وقت
وللرعد وقت