فقد شهدت الأشهر الأخيرة احتلال مرشحين غير متوقعين الصفوف الأولى, في تحد بليغ للطريقة التي يتبعها الحزبان الكبيران . ويشكل فوز دونالد ترامب منذ شهر أيار المنصرم علامة مميزة بشكل خاص في مسير هذا التطور في السعي إلى البيت الأبيض .
في ولاية ايوا , أول ولاية تدلي بصوتها في الانتخابات التمهيدية الأميركية تقدم قطب العقارات دونالد ترامب في الأول من الشهر الجاري في استطلاعات الرأي على السيناتور تيد كروز عن تكساس و ماركو روبيو سيناتور فلوريدا وكذلك يتوقع أن يحتل ترامب الصدارة في انتخابات نيو هامبشاير ,ثاني ولاية ستجري فيها الانتخابات . وتلعب تلك الولايات التي تجري فيها الانتخابات الأولى دوراً أكثر أهمية من بقية الولايات الخمسين التي ستجري فيها الانتخابات ابتداء من شهر شباط حتى شهر حزيران , نظراً لأن الضجة الإعلامية حول النتائج الأولية تحدد جزئياً مألها . وفوز ( الدونالد ) في الانتخابات التمهيدية هو المرجح بشكل جدي . ونسأل : كيف حدث ذلك ؟ ثمة تفسير لذلك هو الرائج أكثر , وهو قاسٍ بما فيه الكفاية على الحزب الجمهوري . ويستند هذا التفسير إلى التباين المتنامي منذ أعوام الثمانينات بين الأهداف لدى قاعدة الحزب , تلك التي استفتت اليوم لصالح دونالد ترامب , وبين النخب لديه . إذ يفضل منذ فترة بعيدة المنظرون والشخصيات السياسية البارزة في أقدم حزب اعتماد سياسات ضريبية في برامجهم على مقاس مانحيهم الأثرياء , ولا سيما في قطاع المال .
ففي عام 2001 و2003 خفض جورج بوش الابن معدل الضريبة على شريحة الدخل الأعلى . وكذلك أمضى النواب الجمهوريون في الكونغرس قسماً من ولايتهم في عمليات كشف قانون دود فرانك , والذي يرمي إلى إحراز إصلاحات مالية في سوق الأوراق المالية . وفي هذا الصدد اقترح الحزب الجمهوري اتخاذ تدابير مواتية بالإجمال لهجرة الأيدي العاملة , التي طالبت بها الشركات الكبرى .
وخلال تلك الفترة , وجد الناخب الأساسي في الحزب , وهو من الطبقة الوسطى من البيض في وضع اقتصادي متدهور . ولم يواكب التوظيف الكامل الذي جرى في أعقاب أزمة الرهون العقارية أي زيادة في الأجور . حيث ازدادت ديون الأسر , ولم يعد الأهل قادرين على دفع تكاليف دراسة ابنائهم وتسديد قرضهم العقاري بينما زاد المهاجرون الضغوط على أصحاب الأجور الأضعف .
وعلى الرغم من الغموض الذي يلفه , سكّنت مقترحات ترامب مخاوف وهواجس تلك الطبقة الوسطى , ويمول ترامب الذي ًعرف عنه مواقفه المتشددة والاستفزازية في قضية الهجرة ( وقد انضم إليه في تلك المسألة مرشحون جمهوريون آخرون ) حملته بأمواله الخاصة , أي ليس مضطراً إلى ارضاء أصحاب المليارات الأثرياء , في وقت يقترح فيه الانتهاء من الاعفاءات الضريبية لأصحاب الصناديق الاستثمارية .
لقد سلطت ظاهرة ترامب الأضواء على سوء التفاهم الذي برز منذ مطلع ولاية اوباما , حينما هزت حركة حزب الشاي المحافظ المتطرف الراديكالي البلاد . وكتب الصحفي ديفيد فروم في آخر أعداد صحيفة الأطلسي « على الرغم من الوضوح , فإن المانحين للحزب الجمهوري اعتبروا حزب الشاي بمثابة حركة مناسبة للمقترحات التي تناولتها افتتاحيات صحيفة وول ستريت جورنال».
ومع ذلك يريد الناشطون في تلك الحركة حماية الطبقات الوسطى قبل مكافأة النخب .
وفيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية , لا شك أنها تلعب دوراً مهماً لدى الجمهوريين , ولكن يبدو أنها صارت تحتل صفاً ثانياً في اهتماماتهم . وعلى الرغم من ذلك لم يستطع المرشح تيد كروز المحافظ أكثر من ترامب تجاوز القيم الدينية والاخلاقية . وقد ضمنت سارة بيلين في دعمها للمرشح ترامب قسماً كبيراً من أصوات الانجيليين .
هذا وقد وجد إخفاق الحزب الجمهوري ما يضاهيه لدى الحزب الديمقراطي . حيث يمكن تفسير فوز السيناتور بيرني ساندرز عن ولاية فيرمونت , المرشح المنافس لهيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي كانعكاس لنجاح ترامب . ففي مواجهة حزب ديمقراطي ملائم منذ ولاية بيل كلينتون ( للشركات الكبرى ) ولسوق وول ستريت موقف يحجب عبر كلمات أكثر تقدمية قضايا اجتماعية , مثل الدفاع عن الأقليات , الزواج المثلي والاجهاض , وجسد ساندرز بنفسه المدافع عن الطبقات الوسطى والشباب المجاز جامعياً . وقد أعرب عن مواقفه المناهضة لاتفاقيات التبادل الحر ودعا إلى إعادة توزيع الثروات..
وبالتالي فإنه حتى ولو كان خيار المرشحين المتطرفين يبعث على القلق , فإن عودة الناخب إلى المسار الديمقراطي هو الحدث الجيد في الانتخابات التمهيدية الأميركية لعام 2016 . وتخوف المراقبون بالفعل منذ توقف منظمة سيتيزن يونايتد في عام 2010 , والتي من خلالها كانت المحكمة العليا تزيل أي سقف لتبرعات الشركات والنقابات في الحملات الانتخابية , من الدور الكبير للمال في الحملات الانتخابية وفي سياسة البلاد بشكل عام . وكان كلا الحزبين مصرين على التضحية بمصالح ناخبيهم بدلاً من مانحيهم .
وضمن هذا السياق بوسعنا أن نشهد خلال انتخابات 2016 نهاية حقبة في السياسة الأميركية , حقبة المال – الملك . لأن الناخب في النهاية رفض أن يلعب اللعبة . وأظهر من خلال تخليه عن المرشحين « الكبار « حيث برامجهم تفضل النخب عن الطبقة الوسطى أن مال المانحين لا يمكنه شراء الانتخابات . وأظهرت الديمقراطية الأميركية مرونتها .
فما الذي سيحدث الآن ؟ وما هي ردود فعل الأحزاب ؟ على الأرجح إن الرئيس المقبل سوف يعين عدة قضاة جدد في المحكمة العليا . وهذه المحكمة بدورها سوف تسعى لوضع نظام تمويل مقيد للحياة السياسية . وهذا النظام سيتيح للسياسيين لأن يكونوا أكثر اهتماماً بالناخب الفعلي .