وواشنطن بلا شك تتوق إلى نسيان تلك المواقف التي عارضت فيها إرادة “المجتمع الدولي”، فبعد كل شيء، تتحدث وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عن “سخف” الفيتو الروسي الصيني الذي جعل كل مجلس الأمن “حياديا”.
وبناء على ذلك، لم يكن من المفاجئ كثيرا رؤية السيدة كلينتون و هي ترفع صوتها الخطابي مرة ثانية في لقاء أصدقاء دمشق في تونس . إذ ألقت عظة في الأخلاق قائلة:
(من المحزن حقا رؤية عضوين دائمين في مجلس الأمن يستخدمان الفيتو بينما يقتل نساء و أطفال و رجال شجعان و البيوت تدمر، انه فعلاً أمر فظيع و أنا أسأل في أي جانب هم الآن؟ بالتأكيد هم ليسوا في جانب الشعب السوري.)
و بسرعة لقي كلام كلينتون إطراء كبيراً من صناع الرأي الأميركيين. ففي البرنامج التلفزيوني Newshour على محطةPBS الأميركية تحدث مارك شيلدز بنشوة عن أداء كلينتون قائلا: (لقد كان ملتهبا ، بليغا و مؤثرا حقا). وبطريقة مماثلة تملق الصحفي دايفيد بروكس قائلا: (أعتقد أننا يجب أن نشعر بالفخر لردة الفعل هذه ، الكثير من العاطفة و الكثير من الاستقامة).
و تحدثت النيويورك تايمز بدورها عن الأزمة السورية في افتتاحية يوم الجمعة تحت عنوان: (الرعب في سورية)، و رأت الصحيفة أن (الولايات المتحدة و أوروبا بحاجة لاستخدام كل قواهما لإقناع و تخجيل موسكو و بكين لأجل قطع كل روابطهما مع سوريه).
و في افتتاحية نشرت قبل أسبوع فقط نشرت نفس الصحيفة افتتاحية بعنوان (القادرون) و فيها تدعو روسيا و الصين إلى (مواجهة اختبار القيادة) بالوقوف ضد (حصار الحكومة السورية على شعبها) و ليس من المفاجئ بعد ذلك أن تشجع مآثر كلينتون في تونس.
و لكن حين يفكر المرء قليلا كيف أن العنف في سورية قد حرك مشاعر دعامات المؤسسة الأميركية الليبرالية من أمثال نيويورك تايمز و كلينتون، لابد و أن يستعيد ردة فعل الاثنين على عملية الرصاص المصبوب.
إنها الثلاثة و العشرون يوماً من الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في أواخر 2008 و أوائل 2009. و أدى الهجوم ، أو جريمة الحرب، إلى موت 1385 فلسطينياً بينهم 318 تحت الثامنة عشر، و جرح أكثر من 5300 فلسطيني.
و مع وقوع المجزرة الإسرائيلية في غزه هل تحدثت السيدة كلينتون عن القتل المحزن للنساء و الأطفال؟ هل تحسرت على عدم قيام مجلس الأمن المحايد بالرد؟ كلا، بل عوضا عن ذلك،و كما فعل الرئيس المنتخب اوباما الذي لم يكن حينها قد تقلد الحكم، اختبأت السيدة كلينتون وراء فكرة بأن هناك «وزير خارجية واحد فقط» . كلا، فلو أنها كانت تخدم فعليا كوزيرة خارجية لما قامت بعمل مختلف.
ولكن ماذا عن صحيفة التايمز؟ هل ناحت على الرعب في غزه؟ هل دعت الولايات المتحدة لمواجهة اختبار القيادة و الوقوف ضد حصار إسرائيل لغزه؟
كلا، ففي الواقع وسط المذابح، كتبت التايمز بوقاحة:(يجب أن تدافع إسرائيل عن نفسها). ثم و ربما لإظهار شيء من «الإنسانية»، أكدت الافتتاحية بحذر أنه على «إسرائيل القيام بكل الجهود الممكنة للحد من الإصابات المدنية». وبالتأكيد دوافع إسرائيل للهجوم على غزه، كانت خارج نطاق توبيخ التايمز.
إن القلق المتجلي في المؤسسة الليبرالية الأميركية تجاه العنف في سورية ليس سوى عرض عام لاشمئزاز مصطنع. فهذه الاستعراضات للغضب من قبل كلينتون ونيويورك تايمز هي ليست سوى حيل مخادعة تغطي الأهداف الامبريالية.
ففي الواقع، و في مقال افتتاحي نشرته التايمز بقلم رئيس الموساد السابق افرايم هاليفي ورد أن سقوط النظام السوري سيؤدي إلى هزيمة استراتيجية لإيران، و هذا يلخص البواعث الحقيقية وراء الغضب المفتعل، و كما كتب هاليفي: (إبعاد إيران عن سورية أساسي لأمن إسرائيل. و سقوط يعني انتهاء تلك العلاقة، و أي شيء آخر سوف يجرد الأمر من معناه). و أشار فيما بعد: ( الوضع الحالي في سورية يشكل فرصة نادرة لتخليص العالم من الخطر الإيراني و الانتقال إلى الأمن و الخير العالمي)
إن الشعب السوري يجب أن يكون حكيماً بحيث يفكر ملياً بأصدقائه الوهميين وسط النخبة الليبرالية الأميركية الذين يخضعون للعقلية الامبريالية.
بقلم الكاتب الأميركي بين شرينير.