تركز بعض الرؤى الفلسفية، ولاسيما الدينية منها، أن رحلة الإنسان في هذه الحياة هي من أجل التخلص من النواقص/ الأخطاء، ليليق بالعوالم العليا الأكثر نقاء، وشفافية، وقرباً من السدرة العليا، وفي الحديث النبوي الشريف: «كل ابن آدم خطاء» ما يعبر أعمق تعبير عن ذلك، ولا يغيب عن البال قول السيد المسيح:
«من كان منكم بلا خطيئة فليرمنا بحجر»، وبسبب هذه الطبيعة البشرية الشاكية من كثير من العلل والنواقص، جعل الإسلام الحسنة الواحدة تمحو عشر سيئات وشجعوا على الرجوع عن الخطأ واعتبروه فضيلة، «الرجوع عن الخطأ فضيلة»، وليس الكلام في هذا إلا مدخلاً للأخطاء التي تمس الشأن العام، والفصل بين العام والخاص هنا هو فصل للضرورة، لأن الأخطاء التي نعدها فردية هي فعل يؤثر سلباً في البنيان الاجتماعي، ولذا كان الضرب مطلوباً على أيدي هؤلاء الذين لا يتورعون عن التمادي في الغي، وكما تعلمون فقد اشتقت الخطيئة من الخطأ، وكلاهما ضار، بيد أن الفارق بينهما فارق نوعي، فالخطأ هو الذي لا يكون مقصوداً بذاته، وقد تكون أضراره عابرة، أما الخطيئة فهي ما نقوم به عن عمد، مدركين حجم أضرارها وفداحتها فنقدم عليها ونكررها بدافع النزوة أو الرغبة المتدنية.
-2-
مصادر الخطأ متعددة، منها ما ينتج عن الجهل، ومنها ما يكون سببه سوء التقدير، ومنها ما يندرج تحت اسم فقدان الكفاءة، وأياً كان المصدر فإن النواتج الضارة لا تتغير إلا من حيث حجم الخطأ المرتكب، ونحن نركز ضمناً على خطورة الأضرار الاجتماعية، دون حذف الارتكابات الفردية التي هي البوابة الواسعة للارتكابات العامة، وفي المسألة وجه أخلاقي وجداني لا يمكن إنكاره، فثمة من الناس، ولاسيما في بلادنا، من يتجنب أي حرام ليس خوفاً من العقوبات القانونية، بل رهبة من ذلك الموقف الذي سيمثل فيه في حضرة صاحب الحق المطلق، ولقد غابت أو غيبت هذه المسألة الأخلاقية الوجدانية في بلدان العالم الغربي المسيطر، وأحلوا القانون محلها، وهم حازمون في ذلك، أعني الحزم وهو أحد أسباب تقدم مجتمعاتهم في إطارها، لافي الإطار الإنساني العام، لأنهم ما أن يخرجوا من ذلك الإطار حتى يتحولوا إلى بلدان استعمارية نهابة، الحق عندها المصلحة لا الحق الناصع الواضح، وأقرب مثال موقفهم من القضية الفلسطينية.
لقد غيبت بعض الفلسفات الفاعلية المسألة الأخلاقية الوجدانية، وألحقتها بسياق التطور العام غير أن التجربة أثبتت أنه رهان نظري قائم في الافتراض الأيديولوجي، وتجربة الاتحاد السوفييتي خير دليل على ذلك، وهذا يضعنا أمام ضرورة أن نعتمد فيما نعتمد على تنمية الجانب الوجداني الأخلاقي للتقليل من الأخطاء ولاسيما في الميادين العامة.
إن أخطر الأخطاء ضرراً، وتدميراً هي تلك التي تنخر في جسد المجتمع، وتضعف مقاومته وتوخر تقدمه بل وتتآمر عليه مع العدو، لأن العدو سيكون مبتهجاً حين يرى كل ذلك الخراب، وفي مقدمة هذه الأخطاء الفساد، والرشوة، والإهمال، والانحراف بالخطط العامة، سواء أكانت إهمالاً، أو فعلاً مقصوداً، وثمة أخطاء تبلغ درجة الخطيئة الكافرة، وهي تلك التي تتعمد وضع خطط للبلاد غايتها أن تصل بها إلى التدمير، وإضعاف المقاومة، بدوافع متعددة، وهي بالإجمال دوافع تتراوح بين الحقد الأيديولوجي المتدني الذي يسف حتى يصل حدود الطائفة والمذهب، و .. أن يكون ثمة ارتباط بقوى خارجية تشحن من هو في موقع فاعل إلى اتخاذ قرارات هي في الحقيقة لغم موقوت سينفجر لابد.
-3-
في سياق ما نحن فيه، وعبر الحراك الذي تواجهه سورية وهو حراك نوعي، وعليه تتوقف مصائر عديدة تنعكس آثارها على مساحة جغرافية إقليمية، وعلى زمن بعيد الرجع، في هذا السياق كان التركيز على الأخطاء والخطيئات أحد ملامح ذلك الحراك وتلك علامة إيجابية ولا يدافع عن الفساد والرشاوى وتدني الأداء إلا حملة ذلك الجرثوم، غير أن التركيز على الأخطاء والتجمد عندها يحمل أثاراً سلبية بعيدة الأمداء، لأن هدف جميع الوطنيين الواعين الوجدانيين هو الخروج من الأزمة، وسد الثغرات الخطيرة التي فتحتها إجراءات ثبت مقدار سلبياتها المدمرة، إن العبور من هذه البقعة إلى ابتداء البناء المشفوع بالديمقراطية والتعددية هو المفتاح للدخول في مستقبل مطمئن على جميع الصعد، نؤكد على هذا ونستعيده لأننا مازلنا نسمع من يردد ذات المقولات التي ربما كانت مما يسمع قبل أشهر وليس الآن.
لنتوقف قليلاً عند بعض الشواهد، تقول للبعض إن سورية الحالية وهي تواجه العصابات المسلحة المدعومة من الغرب الاستعماري، بل ومن إسرائيل، سورية هذه لم تعد سورية ما قبل الأزمة لأن ما صدر من قوانين وقرارات، وما سيأتي قد وضعها على سكة الذهاب إلى الأمام... فيجيبك لقد تأخر الوقت، وهو رد ينبئ عما في دخائل النفوس لاعما تحتاجه البلاد.
صنف آخر يركز على السلبيات ويتفنن في طريقة التعداد، وهو محق لولا أنه يتوقف عند الأخطاء لا يريد مبارحتها لا لتجاوزها بل ليصل من خلالها إلى إلغاء طرف مهم وفاعل، وفي ذلك من العمى السياسي ما يجعل الإنسان يتساءل: أي دوافع في تلك الأعماق التي تحرك ما تنطوي عليه الصدور، فيبدو التركيز على الأخطاء ساتراً للتحرك لبلوغ أهداف ربما يخجل أصحابها من الإفصاح عنها، لأنها متعارضة مع المبادئ الوطنية، تقول للبعض تعالوا لنتشارك في بناء سورية المتجددة، فيقولون لك نعم شريطة ألا تكون أنت موجوداً.
إنه الإلغاء، والإقصاء، لا الديمقراطية، ولا روح التعددية، بل ثمة ما تفوح منه روائح يتوارى الإنسان السليم من ذكرها.
بعض المعارضين في سورية يذكرونني بشيء من قصة «البسوس» فبعد أن رمى «كليب» ضرع ناقتها بذلك السهم، وحاول تعويضها عنها جساس تجنباً للفتنة والاقتتال الداخلي فرفضت، ولأنها جاءت لإيقاد نار الاقتتال، قالت قولتها الشعبية:
«يا ناقتي تقوم، يا حرجي مليان نجوم»، أي إما أن تعود ناقتي إلى الحياة وإما أن تملؤوا ما يتسع له «حرجي» بالنجوم.
-4-
اعتقد أن إدارة الظهر للمعارضة التي مازالت تعتمد المماحكة كأسلوب في التعاطي بدلاً من النظر للمصلحة الوطنية، وربما تقاطعت مع مجلس استنبول، ومع دعوات أخرى تأتي من هنا وهناك، وهي في مجملها لاتصلح للاعتماد، إن إدارة الظهر قد صار مطلباً وطنياً، فهي تتعمد اللعب بالألوان، في وقت لا تحتمل فيه الأمور أكثر من لون واحد هو اللون الذي يؤدي للخروج من الأزمة، لابتداء زمن جديد في سورية، حمل مشروع الدستور المعد للاستفتاء خطوطه العريضة، وإذا كان ثمة ما يحتاج إلى الإضافة فإن الحراك الديمقراطي القادم سيكون بمقدوره استكمال مايجب استكماله.
إن معارضة تتقاطع مع مجلس استنبول ويغازل بعضها امبراطورية (قطرائيل) العظمى، تقول بوضوح إن الانحياز إلى ما يصب في تيارات التآمر هو سبيلها، ولا يغير من هذه الحقيقة أن بعضهم رفض التدخل العسكري، لأن هذا التمايز عن جماعة استنبول هنا لا يلغي التقاطعات الملغومة، والتي لانحار في تصنيفها ولا في دوافعها، وهي ليست مبنية على أسس فكرية، أو رؤى وطنية بل معظمها ينطلق من أنه لايريد هذا النظام وهذه معضلة ديمقراطية، وبنيوية.
هنا قد يحتج علينا من يقول: «أليست المسألة مسألة ديمقراطية؟ هذا حقهم» وهنا لابد من التفريق بين الإجراء الديمقراطي، وشعار الديقراطية، و... ما ينزلق بالبعض حد الالتقاء مع العدو الصهيوني أو مع جهات.. خلاصة ما تنشده أنها تقدم خدمة علنية للصهيونية والماسونية العالمية.
aaalnaem@gmail.com