ويتحدث عن قاطنيها:بأشكالهم وطبائعهم وأنماط معيشتهم؛وذلك من خلال حياته هو أوحياة والده الذي قضى معظم حياته فيها،حتى صبغته بحلتها. رواية لوكليزيو الافريقي ترجمة راغدة خوري صادرة عن دار علاء الدين.
الاديب الفرنسي الحاصل على نوبل في الآداب عام 2008 جان ماري غوستاف لوكليزيو يذهب إلى أن الإنسان لا يولد ساعة خروجه إلى النور، ولا متى ينتقل من ظهر والده إلى رحم أمه كما يعتقد بعض القبائل الإفريقية، ولكن حين يكتسب والداه معاً فكرتهما عن الحياة. جاء ذلك في كتابه الصغير الذي اختار له عنوان «الإفريقي»، حيث يقدم لناما يشبه رصدا لطبيعة الحياة الإفريقية القاسية التي شهدها مع شقيقه ووالديه في الطفولة، إذ عمل والده طبيباً تابعاً لإدارة المستعمرات الإنكليزية في الغرب الإفريقي. لعبت الحرب العالمية دوراً في تشكيل وعيه كطفل وكاتب في ما بعد، فانحاز في أعماله إلى قضايا الإنسان في كل مكان، راصداً تلك المعاناة التي يعيشها البشر في حربهم مع الطبيعة والاستعمار وثنائية الطرف القوي والطرف الضعيف. كان لوكليزيو يرغب في تقديم كتاب عن سيرته الذاتية في ذلك المكان الذي عشقه والده. الفترة التي اختارها للكتابة مرحلة مفصلية في حياة العالم كله بقدر ما كانت في حياته الخاصة، وهي فترة الحرب العالمية الثانية، تلك التي شطرت أسرته نصفين: الأول، هو الأب الذي عاش أثناءها في الجبال والتلال وفي الصحارى الإفريقية مرغماً، وغير قادر على الوصول إلى أسرته في فرنسا. والثاني، هو الأسرة المكونة من لوكليزيو وشقيقه ووالدته وجدّيه، إذ طاردهم الألمان في كل مكان كانوا ينتقلون إليه في فرنسا، وفشلوا في التسلل إلى العمق الإفريقي ليقيموا مع الأب الذي قبضت عليه قوات الاحتلال الفرنسي على الحدود الجنوبية للجزائر. . . يسرد لوكليزيو عن طفولته في إفريقيا واصفاً طبيعتها، ويتحدث عن سكانها بوصفهم بشراً من لحم ودم، تتقمصه براءة الطفل وهو يكتب عن أحاسيسه في اللعب مع أطفال آخرين من السكان المحليين، تصل الرومانسية إلى أقصاها وهو يقول “في طفولتي كنت أعتقد أن أمي إفريقية” . يحاول بعد ذلك أن يستحضر بعين المثقف حياة الأب منفرداً لأكثر من عشرة أعوام، يصور بواقعية سوداء إفريقيا الخمسينات وهي تتهيأ للاستقلال، معلومات ومشاهد مركزة عن الفقر والمجاعات والأوبئة وتحليل لما فعله الاستعمار من زرعه لإدارة سيئة وفاسدة تتولى حكم الكثير من البلدان في أعقاب انتهاء الحقبة الكولونيالية، ويورد حوارات نادرة له مع والده تبرز كيف استخدم الاستعمار الطب أداةً ناجعة لإحكام السيطرة، يتقمص الراوي الأب الصامت غالباً ليقول على لسانه عن الأفارقة “إنهم ليسوا أكثر وحشية من سكان باريس” . لم يبدأ العالم التعرف على جان ماري غوستاف لوكليزيو إلا بعد حصوله على جائزة نوبل للاداب عام .2008 لا يقتصر ذلك على قراء العربية وحدهم بل يشمل, تقريباً, القراء في كل مكان خارج أوروبا ومنهم جمهور القراءة بالانجليزية.
غالبا ما تدور رواياته على المسرح الافريقي حيث نجده في روايته «صحراء» يتابع الايام الأخيرة من حياة الطوارق أو الرجال الزرق كما يعرفون محلياً وهم يزاحون عن أراضي أجدادهم في الشمال الافريقي على يد جيش الاستعمار الفرنسي وبفعل النظام الجديد , والمسرح الفرنسي حيث تتجسد معاناة الجيل الاخير من ابناء الطوارق الذي توزع على المنافي في أحياء الصفيح في مدن مثل طنجة ومارسيليا.
الحضور الذي يهيمن على كثير من رواياته هو حضور الصحراء. فهذه الارض التي يستجلبها لوكليزيو بصخورها الوعرة وحرارتها الحارقة ومتاهات كثبانها وتموجات فضائها المفتوح ليست مجرد مكان أو مسرح للاحداث. إنما هي مملكة للوجود ومصدر له بقدر ما هي أيضاً, بـ سرمديتها و تغلغلها في أجساد الرجال, حالة ذهنية.. أفضّل أن أقول إن الكتابة بالنسبة إليّ هى بالأحرى مغامرة، وهى طريقة لكى أخرج من نفسى لأجد شيئا آخر، ولكى لأكتشف ذاتي، وبالخصوص لكي أفهمها بشكل أفضل». ج.م.غ.لوكليزيو. ومن خلال حياة السفر والتنقل الدائم بين الأمكنة، استطاع أن يبدع أعمالا رائعة تذكّر بأعمال جوزف كونراد وبريس شائوين وكتاب آخرين شكّل السفر والاحتكاك بثقافات مغايرة وبأجناس مختلفة، محورا أساسيا في أعمالهم.
في هذه الرواية تتبدى حقيقة يعترف بها لوكليزيو ويروي تفاصيلها في كل لقاء يجريه أو شهادة يدلي بها حول أدبه . عشق السفر منذ طفولته، وقد ازداد تولّهه بالسفر بعد أن قرأ السورياليين. فقد كان هؤلاء يقطعون مسافات مديدة داخل باريس، رافضين ركوب الميترو والباصات. وكانوا يعيشون حياة «البدو الرحل» متنقلين دائما بين الأماكن. لذا يمكن القول إنهم كانوا من أوائل الذين قطعوا مع الأدب البورجوازى الذي عرف فى القرن التاسع عشر، والذي كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بأماكن معينة ومحددة.
غير أن السفر عند لوكليزيو لا يعني الهروب من شيء ما. لذلك هو يقول فى أحد الحوارات التى أجريت معه: «لا أعتقد أني أعشق السفر لأنني أرغب فى الفرار من شيء ما. فإذا ما كان الفرار هو هدفي فإن شعورى سيكون عندئذ إدانة ما أنا هارب منه، وما أخشاه.) وكان لوكليزيو فى الثامنة من عمره لما قام بأول رحلة له خارج فرنسا. فقد كان عليه أن يسافر إلى نيجيريا ليلتقي بوالده الذى لم يكن قد تعرّف عليه حتى ذلك الوقت: «ليس من السهل تصور الخوف الكبير الذى يستبّد بطفل عندما يركب الباخرة بعد الحرب الكونية ليذهب إلى بلاد يجهلها، وللعثور على رجل لا يعرفه، والذي يقال إنه والده».
وخلال الرحلة التى استمرت شهرا كاملا انشغل لوكليزيو بكتابة رواية تتحدث عن باخرة يدمرها سمك القرش. وكان اللقاء بوالده مؤثرا للغاية. وقد سمحت له السنة التي أمضاها فى افريقيا السوداء بالتعرف على غامبيا، وقد سمحت له السنة التى أمضاها فى افريقيا السوداء بالتعرف على غامبيا، وسيراليوني، وليبيريا، وعلى مناطق أخرى كانت تابعة فى ذلك الوقت للامبراطورية البريطانية. كلها ستظهر في أعماله الأدبية لاحقا.
فى سنوات المراهقة، قرأ لوكليزيو رامبو، ولوترايامون وكيلينغ، وكونراد وجاك لندن، وكتابا آخرين سوف يكون لهم تأثير كبير في ما بعد على مساره الأدبى وعلى توجهاته الثقافية والفكرية. كما أنه قرأ كتابات المستشرق الفرنسى الشهير شارل دو فوكو الذى عاش فى الصحراء الجزائرية وعنها كتب الكثير.
ومنذ ذلك الوقت، سوف تكون الصحراء فى قلب اهتماماته. في الآن نفسه كان يكتب بغزارة، فتحت تأثير رامبو، كتب العديد من القصائد. كما أنه كتب تأملات فلسفية ورواية على طريقة جيل فارن ودراسة فكرية عن المرور من عالم ما قبل التاريخ إلى العالم التاريخي.
ولأنه كان يتمتّع بالجنسية الانجليزية، فإنه لم يشارك في الحرب الجزائرية. لذا انطلق وهو فى التاسعة عشرة من عمره إلى انجلترا ليعمل أستاذاً فى «BATH». وعند عودته إلى فرنسا، حصل على ديبلوم الدراسات العليا، منجزاً دراسة حملت عنوان: «الوحدة في أعمال هنرى ميشو».
وبهذه المناسبة، التقى بالشاعر وعن ذلك كتب يقول: «إن ميشو يمتلك سلطة الكلمة التي لها سلطة الفعل ذلك أنها ليست إشهارا ولا تعلّة، ولكنها خلق فوري على طريقة حركة، وعلى طريقة رقصة. ونحن تتملكنا الحالة المستعجلة لما قيل».
كما أعدّ لوكليزيو في هذه الفترة رسالة جامعية عن لوترايامون قائلا عنه: «إنه – أي لوترايامون- يتعارض تماما مع ميشو. معه نحن لا نعرف شيئا. نحن لا نعرف أين يبدأ الجنون، وأين تبدأ الخدعة».
ومتأثرا برواية الكاتب الأمريكي الكبير ترومان كابوتي «بدم بارد» الصادرة في أواسط الستينات من القرن الماضي، والتى أثارت جدلاً واسعاً فى ذلك الوقت، كتب لوكليزيو مقالاً في «المجلة الأدبية الفرنسية» وفيه يقول: «الروائي في القرن العشرين لا يمكنه أن يكون «الانسان النزيه» الراضي عن ثقافته، وعن تجربته وعن لغته.