هكذا ويكلّ بساطة تمرّ قامة فارعة وحاسمة وساحرة أمام رجل فيشيح بوجهه ويبحث عمّن هي أقل جاذبيّة وأخفّ بريقا و أسهل ابتلاعا وأكثر إنصاتا إليه.
إنّه الخوف من سطوة الجمال الذي يولّد اهتزاز الثقة ورعب المنافسة ومن ثمّ الانصراف إلى ما يظنّه الذكر أقلّ عناء، وفي المتناول دون خسائر... ولكن، هيهات..لقد فات هؤلاء المغفّلون من الرجال أنّ آمنة الخطوة والكلام والابتسام والمغامرة هي تلك الواثقة من جمالها، أمّا التي حرمت منه (أو حرمت نفسها منه) فلها توجّس دائم من أنّ الذكور جميعهم ذئاب تحفّ أنيابها وتسنّ مخالبها وتنتظرها في الطريق عند أوّل منعرج.
قيل أيضا إنّ الرجل يحب الذكيّة وينجذب إليها ولكنّه يرتبط بالبلهاء.. المرجّح أنّ هذه العبارة قد وردت من امرأة متواضعة الجمال، معكّرة المزاج، دخلت مجال الفكر والأدب من أوسع الأبواب بعد أن خذلها جسمها السمين في طرق أبواب أخرى ضيّقة ومنيعة ولا تنفتح إلاّ للممشوقات.
لماذا ارتبط الجمال بالبلاهة كما ارتبط غيابه بالنباهة، على شاكلة:(كوني جميلة واصمتي)... أي تحدّثي كي أراك.. فلعلّ هناك ما يشدّني إليك.
هل حقّا يستحيل الّلقاء بين جمال الجسد والروح والفكر، من أوجد هذه المعادلة المستحيلة؟!.. لاشكّ أنّهم الذكور، هم الذين يضعون أذواقهم وتربيتهم وعقدهم في مقاييس الجسد الأنثوي فتنخدع إليها النساء بل وتساهمن في تكريسها كأمر واقع لا مفرّ منه.
لا ننكر أنّ حسناوات كثيرات إذا تحدّثن فقدن نصف جمالهنّ وأنّ أخريات (عاديات) إذا تكلّمن استرجعن ماحرمن منه ببريق خفيّ وآسر.، إنّها اللغة حين تمسي حليّا تزيّن وتسعف من خذلتها الصورة.
الدخول في متاهة الجمال وتعريفاته وتهويماته أمر غير مكفول العواقب ولاتسعفنا فيه الكليشهات الجاهزة والعبارات المعزّية مثل:(الجمال هو جمال الروح).. هل نسينا أنّ للروح فيضا يشعّ من الوجوه والعيون والحضور والسلوك والابتسامات – ماالذي جعل من فيروز أيقونة غير هذا السرّ -، أين عساك أن تجده في أنثى أخرى، شعثاء الشعر والروح، ملبّدة الوجه والمزاج، جاحظة العينين والنظرات، يقطر لسانها سمّا زعافا والعياذ بالله خالق الجمال ومحبّه.
هل بإمكان أي كائن أن يكون جميلا؟.. نعم بالتأكيد ودون تردّد.. ودون مساحيق و دروس وتمارين في التنحيف والعناية بالبشرة وشدّ العضلات... كيف؟
الأمر ليس وصفة تحفظ وتنفّذ، بل إحساس بالجمال اسمه الحب ونظر في مرآة الروح قبل مرآة الخزانة، الخزانة التي نمدّ يدنا إليها كلّ صباح فلنلتقط الثياب والأحذية والعطور ولكنّنا لا نلتقط الصفاء والبهجة والإحساس بالآخر، لأنّ هذه الأشياء يجب أن تنام معنا وعلى وسادتنا كلّ مساء، ألم تقل العامّة: (الحلو حلو حتّى إذا فاق من النوم).
الحب وحده يجعل ثيابنا أنيقة والقبلات وحدها تجعل شفاهنا مكتنزة و بطعم الكرز.. والابتسامة وحدها تجعل أسناننا ناصعة البياض، لذلك رافقت أذهاننا صورتان نقيضتان ولكنّهما متآلفتان لمتلازمة الحب والجمال:
الأولى: يتواجه فيها الأخيار والطيبون في كلاسيكيات الأدب العالمي وقصص الأطفال كسنووايت وسندريلاّ وغيرها بجمالهم الملائكي مع الأشرار في هيئاتهم القبيحة والمنفّرة.
الثانية: يتواجه فيها أشرار يدّعون الوسامة مع أخيار ولدوا داخل أجساد معطوبة وهيئات تدعو إلى العطف ولكنّها لم تعد منفّرة بل ننظر إليها بحبّ وإعجاب ولعلّ أشهرها رائعة أحدب نوتردام وقصّة الحسناء والوحش ذائعة الصيت، أمّا حسناوات جيمس بوند فقد أراد من ورائها صانعوها أن يروّجوا لفكرة الجمال الشرّير والبطولة الذكوريّة في مواجهة الغواية الأنثويّة بقصد الفصل بين جمال الرغبة وجمال الهدف في محاولة بائسة لا تروق إلاّ للمعقّدين والمرضى النفسانيين.
لا شكّ أنّ للجمال رهبة لا يحسّها إلاّ عشّاقه و متذوّقوه، ولكن... لماذا نهرب منه ونبحث عن نقيضه؟! لماذا نخشى مواجهته ونفرّ إلى جحور العتمة والرتابة؟
لا يواجه الجمال إلاّ الجمال ولا يعانق ولا يحاور ولايعترف بالجمال إلاّ الجمال، فلنستنهضه فينا كلّ صباح، نساء ورجالا، أطفالا وشيوخا.
hakemmarzoky@yahoo.fr