قد يرى البعض في الاستعصاء السوري على الأخذ , وفي التحوّل الذي حدث في مصر وأطاح بسلطة جماعة الإخوان المسلمين , ونجاحات الجيش العراقي بمواجهة الإرهاب , واتساع المطالبة الشعبية في تركيا باستقالة حكومة أردوغان , وفيما يجري في تونس وليبيا من تطورات , دلائل على فشل المخطط . لكن فهم طبيعة المخطط وأبعاده, وما ينطوي عليه من لعب على التناقضات , يجعلنا نتردّد في التسليم بأن الخطة قد انتهت, أو أن محاولات استمرار تنفيذها قد توقفت .
ولكي تكون قراءتنا لما حدث ويحدث , ولما يمكن أن يحدث , صحيحة, لا بدّ أن نتذكر دائماً بأن هذا الذي يحدث – ومهما تعددت الأطراف المشاركة فيه - يتمُّ لصالح الكيان الصهيوني وخططه العدوانية التوسعية , وأن الهدف الأساسي للصهاينة كان طوال الوقت وسيبقى متمثلاً في « التفتيت الاستراتيجي » للمنطقة . لكنّ هذا التفتيت ليس هدفاً في حدّ ذاته , وإنما هو المدخل لتمكين الكيان الصهيوني من السيطرة المباشرة أو غير المباشرة , وخاصة على الأرض العربية الواقعة بين الفرات والنيل .
إنّ الأدوات التي تستثمرُ الآن في تنفيذ هذا المخطط تتمثل في العصابات الإرهابية والمرتزقة والضالّة . وما هو مطلوبٌ من هذه العصابات من الزاوية الصهيونية أمران هما :
1 – إشغال واستنزاف العرب عسكرياً واقتصادياً .
2 – أداء دور الذريعة لتبرير الغزو الصهيوني التوسعي لاحقاً بدعوى القضاء على الإرهاب , بعد أن يكون هذا الإرهاب قد استفحل وأحرق الأخضر واليابس .
وهذا يعني أنّ ما يفعله الصهاينة , ومن يقفون وراءهم أو معهم , أنهم يصطنعون الظروف والذريعة التي تعطي الكيان الصهيوني مبرّر التوسع والقدرة على التوسع معاً.
إنّ هذه السياسة تعني أنّ من مصلحة الكيان الصهيوني توطينَ أكبر عددٍ ممكن من الإرهابيين في الأقطار المحيطة بفلسطين المحتلة , أي في لبنان وسورية والعراق والأردن ومصر . وإذا فشل هؤلاء في تفتيت هذه الأقطار كما يحلم الصهاينة , فإنه مطلوبٌ منهم على الأقل أداءَ دور مزدوج, هو المشاغلة والاستنزاف داخل تلك الأقطار أولاً , وتشكيل حاجز أمني إرهابي بين فلسطين المحتلة والأقطار المجاورة هو ما أطلقنا عليه تسمية « قوس الإرهاب « . وهذه المصلحة الصهيونية تجدُ التجاوبَ من قبل البلدان التي ساهمت في تعبئة وتصدير الإرهابيين إلى سوريا , والتي تخشى الآن عودتهم إلى بلدانهم , فهي ترى في هذا الإجراء تبديداً لمخاوفها من عودة الإرهابيين إليها , عدا عن الدلالة التي ينطوي عليها , وهي الاستمرار في تنفيذ المؤامرة .
إن تموضع الإرهابيين على هذا النحو ينطوي على أمرين خطيرين :
أولهما – أنه سيكون بوسع الكيان الصهيوني وآل سعود متحالفين تقديم الخدمات اللوجستية للإرهابيين – سرّاً أو علناً – بشكل مباشر . فإسرائيل تتواصل مع حزام الإرهاب على امتداد حدود فلسطين المحتلة , ومهلكة آل سعود تتواصل معه عبر الحدود مع الأردن والعراق وخليج العقبة. ولا مشكلة بعد ذلك إذا خرجت تركيا من اللعب بعد الدور الذي أسند إليها في المرحلة السابقة . كما أن جميع الأطراف الأخرى المساهمة في دعم الإرهاب سيكون بوسعها التظاهر بالوقوف بعيداً ونفض يدها من اللعبة , أما الأردن الذي تستهدف جغرافيته فبوسع حكومته الادّعاء بأنها مغلوبة على أمرها , وأنها تحاول مقاومة الإرهاب ولكن دون جدوى , خاصة وأن المعطيات ترجح التحالف بين القاعدة والسلفيين وجماعة الإخوان المسلمين في الأردن على نحو ما هو حاصل من تحالف بين هذه الجهات في مصر وسورية .
وثانيهما – أنه سيكون بوسع الإرهابيين التنقل على طول قوس الإرهاب المحيط بفلسطين المحتلة بحريّة نسبيّة , وخاصة عبر الأراضي الأردنية التي تتحول لتكون القاعدة الرئيسية للإرهاب . وهكذا يمكن المناورة – حسب الحاجة – على جميع الجبهات في الشمال والشرق والجنوب .
قد يقولُ قائلٌ : ألا يخشى الكيان الصهيوني في مثل هذه الحالة من أن ينقلب السحرُ عليه , وأن تتعرض مواقعه ومستوطناته للهجمات ؟ .
ومع أن التجربة العملية حتى الآن تعطي الطمأنينة للكيان الصهيوني بأنه لم ولن يستهدف من قبل الإرهابيين , إلا أننا نقول بأن هذا الكيان لا يعقل أن يستبعد هذا الاحتمال كلياً مع أنه يعلم بأن الإرهابيين لا يستطيعون الاستغناء عن خدماته وخدمات شركائه آل سعود , مما يكفل انضباطهم تجاهه , مثلما حدث في الماضي , ولكنه في لحظة اتخاذهم ذريعة لتبرير الغزو سيحتاج إلى خرقهم لهذا الانضباط بغية إعطاء الانطباع بأنه لا ولاية له عليهم أولاً , وأنهم يشكلون خطراً عليه ثانياً , وأن واجبه الإنساني تجاه يهوده وتجاه سكان المنطقة الذين استباحهم الإرهاب يفرض عليه التدخل للقضاء على الإرهاب ثالثاً , كما أن مصلحته الأمنية في مواجهة الإرهاب تستلزم بقاءه في أي مواقع يقوم باحتلالها بدعوى تخليصها من الإرهاب رابعاً . وبهذه الذرائع يتنصل من أيّ اتفاقات سلام مع بعض دول الجوار خامساً .
لعل الأمر الأكثر إثارةً في رصدِ وفهم أبعاد هذا المخطط يتعلق في الواقع بمستقبل كل من شرقيّ الأردن والأجزاء الشمالية والشمالية الغربية من مملكة آل سعود , وهي المناطق التي يتوقع أن يتموضع فيها الإرهابيون بكثافة . فتنامي القدرات الدفاعية والهجومية لمحور المقاومة , يفرض على الكيان الصهيوني التفكير بأمرين أساسيين :
أولهما – كيفية محاصرة أو إشغال أو إضعاف أو استنزاف قوى محور المقاومة . وإن توطين الإرهاب في القوس المحيط بفلسطين المحتلة من شأنه أن يساعد في أداء هذه الوظائف , عدا عن دوره في استمرار المحاولة الهادفة إلى تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير .
وثانيهما – أن مواجهة التطور النوعي في القدرات الصاروخية لمحور المقاومة يجعل الكيان الصهيوني بحاجة إلى جغرافيا سياسية وعسكرية أوسع تسمح بنشر القواعد العسكرية الدفاعية والهجومية فيها بحيث يجري إبعاد الخطر – ولو جزئيا – عن تلك المناطق الضيقة المساحة والمكتظة بالمستوطنين والمنشآت الصناعية على ساحل البحر المتوسط . وإذا كان الصهاينة لجؤوا في الماضي إلى تكثيف تواجد مؤسساتهم العسكرية والصناعية في النقب , فإن هذه المنطقة لم تعد كافية في نظرهم , خاصة وأن إيران هي طرف أساسي في معادلة الصراع بالنسبة لهم . وهذا يجعل الصهاينة يفكرون بالتوسع شرقاً على حساب شرقي الأردن ومملكة آل سعود.
إن توطين الإرهاب في القوس المحيط بفلسطين المحتلة من شأنه أن يوفّرَ للصهاينة فرص الرهان على تحقيق الأمرين السابقين معاً . لكنه سيوفر لهم أيضاً فرص المناورة على جميع الجبهات في المنطقة بحيث تقوم العصابات الإرهابية سواء منها تلك التابعة للقاعدة أو لأحزاب وتنظيمات عميلة , بمواصلة تنفيذ الخطط الساعية إلى نشر الفوضى واستنزاف القوى . ولا يهم الصهاينة وشركاءهم في مثل هذه الحالة من هي القوى الصاعدة ومن هي القوى الهابطة طالما أن الصراع محتدم وتجري عملية تأجيجه بكل السبل والوسائل . فالمهم بالنسبة لهم أن يستمر تنفيذ المخطط , بما يتضمنه من استنزاف وتمزيق , ومهما طال أمدُ تنفيذ هذه العملية .
إن ما يحدث الآن , وما يمكن أن يحدث خلال الفترة القريبة القادمة , إنما هو قولبة جديدة للمخطط التآمري الذي يستهدف تنفيذ مخطط « الشرق الأوسط الكبير » في ضوء التطورات الحاصلة , وخاصة خلال السنوات الثلاث الماضية , وليس إقراراً بفشل المخطط أو قراراً بالتوقف عن مواصلة تنفيذه . وفي هذه القولبة سيكون الهدف هو استمرار العمليات الإرهابية في جميع الاتجاهات وبأسلوب حرب العصابات التي تشنها مجموعات صغيرة أو حتى يقوم بتنفيذها أفراد انتحاريون .