إنها، الأديبة والشاعرة الجزائرية «هدى درويش» التي عاشت ومذ نبوغ عقلها وتضامنها مع كلّ وطنٍ عانى من حقدِ المستعمر وإجرام الظلاميين.. عاشت «آمالَ حب يبحث عن وطن».. وطنٌ، عانقتهُ بـ«خلود الياسمين» وخاطبتهُ: «لكَ وحدك» أهدي «نساء بلا ذاكرة» علّك تردم وجع ذكرياتهنَّ «لأنّكَ دائماً تكون غيرك»..
لأجلِ هذا، ولأنها جعلتْ الحبَّ والسلام مداداً دوّنت به عافية الأوطان وأولها وطنها.. حاورناها عبر صفحتها لنسألها:
* «عهدناكِ شغوفة كروح، وكحرفٍ هو ريحٌ تارةً وأخرى نسمة.. قرأناكِ: «لاأدري، ومنذُ أن عدتُ إلى نفسي، من أكون.. أنا مجموعة نساء غريبات حدّ الشراسة. ضعيفات حدّ الهفوة».. من أنتِ غير ذلك؟..
** لن أستغرب حين أجيب ذات الاجابة للمرة الألف.. ماهية الكينونة تشغلني. أسأل نفسي باستمرار لماذا وجدت في هذا الزمن، وفي هذه البيئة؟.. ليس تذمراً، بل هو نوع من الضياع.
أتساءل عن أحلامي والماضي الذي قدم بي إلى هنا. عن هذه الأرض، وعما تركت في دواخلي جميع الوجوه التي مرت ورحلت عني.. أشعر أنني مثقلة بأوجاع الذين حولي.. بوجعي الذاتي وأحلامي وأوجاع وطني. أراني كونتيسة الصمت والهروب والسفر والانطواء.. أفكر بأصابعي، وأؤمن أن سعادة الحياة قد تكمن في رقصة فادو ...
* في أول أعمالك «آمال.. حب يبحث عن وطن» رسالة أرسلتِها منذ عشرات السنين وتقول: «أهمّ من تحرّرنا السياسي والاقتصادي، تحررنا الأخلاقي والفكري». ما رسالتكِ اليوم وقد استفحلت أمراضنا الفكرية والأخلاقية؟..
** «حب يبحث عن وطن» لاأعتبرها رواية ولا قصة ولاعمل.. أعتبرها تجربة كتابية أولى، لكنني لا أخفي عليك وعلى القارئ، أنني أندهش حين أقرأ نصوصي القديمة، وأتساءل: من أكون وهل كنتُ لأكون ما أنا عليه الآن لو فكرت وقتها بغير ذلك.. أمراضنا الفكرية والأخلاقية تجعل منا مجموعة مشردين على خارطةٍ لامكان فيها لغير العاصين والأقوياء، وقبل أن نتحدث عن التحرر السياسي، وجب علينا العودة إلى ذواتنا. تركيبة الانسان العربي، طريقة تفكيره، نمط عيشه، عدم قدرته على التطور والتكيف والمواكبة. إيمانه الأعمى بالعنعنات والخرافات والفذلكة. لا يمكن لهذا الإنسان أن يتحرر مادام قابعاً على ما هو عليه.. التغيير هو حرية الفكر التي تنتج إنساناً...
*«أيضاً، وفي «نساء بلا ذاكرة» رسالة تقول لكلِّ حالمةٍ بالتحرّرٍ من قيودِ بلادها، بأن كل فضاءاتِ الغرب عاجزة عن سلخِ الوطن من ذاكرتها. ياترى، من يعيدُ للمرأة ذاكرة أفقدها إياها تيهُ البحثِ عن جدوى؟.
** لعبة الذاكرة خطيرة جداً. تتحكم في الذات بأعجوبة. ساحرة، متقلبة. أنا بطلة كل أعمالي. كل النساء اللواتي ولدن من خاصرتي الحبرية هنَّ أنا في صورةٍ ما.. رقصة ما.. ليلة ما.. مدينة ما.. لذلك، هن غريبات، منبوذات، متعجرفات، مصابات بالانفصام والوساوس و...
أشهد أن الوطن والحب هما عقارب ساعة الوجدان الخفية. يقفان بصلابة أمام دهشة الأسفار وضوضاء المدن العالمية، والميتروهات الصاخبة.. تحتفظ المرأة بذاتها حين تضع جانباً «القطعة الباعثة للحياة» وتعلمها ألا تنجرف بأي سيل وألا يغرّها أي ضجيج أو أضواء.. ستضحكين حين أقول لك أنني حينما كنت أغادر عملي بالنورمانديا الفرنسية، كنتُ أستحضر يومياً تلك التلميذة القروية التي تعود سالكة درب المدرسة الى البيت، وأشتاق إلى ذلك الزمن كثيراً، وهو القطعة الباعثة لديّ، والتي لم تتغير بعد.
* تقولين: «الدينُ كما الحب، يموتُ حين يصبح عادة». هل ترينَ بأن الدين قد شُيِّع إلى مثواه الأخير، وخصوصاً لدى من تسلّح بمعتقداته لتكفيرِ وقتلِ الآخرين؟.
**سيظل يحزنني أنني أنتمي إلى أرضٍ يؤمن إنسانها أن «أم كلثوم» ستذهب إلى الجحيم لأنها عورة، وأن «بن لادن» قد يكون مجاهداً حقيقياً تسرَّع العالم في الحكم عليه. أرضنا تقتل المحبة وعليه فإن كل شيء جميل يموت بيننا وهو فتي. يموت دون أن تدرك هذه الأمة قيمته الحقيقية. هنالك خلل في ايديولوجية العيش لدينا. في طريقة استهلاكنا للزمن. في آلية إيماننا بالحلم وبالشمس وبالغد وبالأمل.
* تقولين أيضاً: «ما أشقى أن تتعامل بحضارةٍ مع من لاحضارة لفكره». برأيك، كيف يمكن التعامل مع من قصدتِهم بقولك: «ماذا ستفعل بنا داعش بعد؟!. محاطون نحن بالخرافات المبايعة لها سلاماً، وباللحى المناصرة لشيطانها الأعمى في السرِّ وفي الجهر الخافتْ»؟..
** الحرب على الجَهالة، تكاد تكون مستحيلة على أرضنا.. هنالك محاولات لاتكاد ترى النور حتى تُهزم و تُجهض. لا أكتب في السياسة كثيراً.. أتركها لناسها ولكنني أعبّرُ عن رأيي في بعض كتاباتي ويشعرني هذا بالرضا العميق، فهذا الامتداد الذي يتعاقب ويتلوَّن للفكر المتطرف على مدى عشرات السنين، يوحي لي بحقيقة وجود هذه الأفكار بشكل خطير ومكثف تحت غطاءات كثيرة.. المستتر هو ما يصعب محاربته. نحن كمثقفين مثلاً، ندفع غالباً ثمن آرائنا ومواقفنا، لكن تجار الدين والنجاسة وحلفاء الشيطان، لا ينبثقون سوى من جحور المجهول وبأسماء مستعارة، وبوجوه ربع مكشوفة، وبشخصيات متملقة وهم موجودون في حياتنا اليومية. نصادفهم في الشارع والمقهى والسوق والحافلة. عيونهم تكشف نياتهم ودواخلهم، لكننا حملنا راية الجمال والمحبة، وبقينا على ثبات وسنظل..
* «قرأتُ لكِ: «الإنسانية تتدهور، وجميع ما حولنا يؤول إلى انحطاط». من ترينَه المسؤول، وماذا تقولين للمثقف الذي انقادَ أو ابتعدَ عن أداءِ دوره في هذا الوقت؟..
** سأروي لك حادثة راهنة عن الأديب الجزائري الراحل «الطاهر وطار» الذي أنشأ في الجزائر العاصمة مع نخبة من الأقلام، وقبل عشرين سنة أو أكثر، جمعية الجاحظية الثقافية، وما حدث هذه الأيام بعد وفاته، هو أن بعضهم عرض مقر الجمعية للبيع في إعلانات رسمية، واقترح تحويلها إلى مطعم.. هذا مثلاً أحدث ما أنجبَ الانحطاط الثقافي في الجزائر، إضافة إلى غياب النخبة وتدهور مستوى المتلقي، وهي حلقة مفرَّغة، سادية، مظلمة تؤدي على الأقل، إلى انقراضٍ مستحَق..
*«أهديتِ ديوانكِ الصادر حديثاً «لأنكَ دائماً تكون غيرك»: «إلى الهوية الضائعة والمدائن التي لابحرَ لها.. الوجوه التي رحلت دون أن تخدش الذاكرة.. الماضي..». ماذا أردتِ القول من هذا الإهداء، أو من الديوان؟.
** هذا الديوان، هو أول عمل يستحق أن يُكتب عليه اسم «هدى درويش» بجدارة الرسالة والمبتغى.. لم أكتبني قبل هذا الديوان.. أهديته لروحِ كاتبة أمازيغية رحلت في يوليو الماضي. «ديهيا لويز» التي جرحني غيابها حدّ شعوري بأنني من واجه الموت وجعاً وصراعاً وصمتاً محكماً.
أهديته للفتاة الافريقية المتسكعة التي تسكنني أينما وُجِدتُ، وللوجوه التي كنت مدانة لها بقوتي وما زلت مدانة لها بانبهار.. كتبته في أكثر من مدينة، وعلى مدى ثلاث سنوات مررت خلالها بتجارب صعبة وقرارات مصيرية. كتبتَني عارية الروح والفؤاد، وبصدق لم يستشعره حرفي في أي عمل سابق.
* قلتِ عندما أخبرتكِ أنني أحاوركِ من دمشق: «أشتاق دمشق وعطرها.. يصلني الكلام والعاطفة والعطر والفصول والفرح.. دمشق الصاخبة الآن ستهدأ، وستظلُّ شامخة غاضبة، صعبة وشرسة، ودينها في عزّة تدمر لاغير».. ماذا تقولين لدمشق في نهاية حوارنا؟..
** في حضرة دمشق أخجل.. أرتبك.. أبكي.. أتمدَّد أرضاً عند معصم المدينة. أشعر ببردها وضجيجها وحرقتها وغضبها.. ربَّتني والدتي على حب دمشق التي قطنت بها لفترة مُعتبرة، وأوصتني بركوةِ حلمنا معاً..
نعم.. تُدين دمشق بعزة تدمر.. لها أبدية بعمر المجد، والموت للخونة والخزي والعار ...