|
الآن والأمس إضاءات فأسبغت اسمها على أشهر مدرسة واتجاه في تاريخ الفن التشكيلي العالمي، كانا نقطة الانطلاق نحو التجديد والتجريب. هل تعلق الأمر بسعي الانطباعية للتحرر من القواعد المقيدة لحرية الإبداع، أم في دعوتها لرؤية العالم المحيط بنا كما هو في حقيقته المجردة بعيداً عن الأفكار المسبقة والمشاعر الذاتية، أم في ذلك الجو اللوني الذي يتأرجح على تخوم الحلم، وربما الكابوس، أم تعلّق الأمر بالأمل في شروق الشمس من جديد؟.. أياً كان الأمر فقد بدا - بالنسبة لي على الأقل - أكثر من مجرد خيار تزييني، أو رغبة مسرحية باستكمال الديكور (المتقشف والكافي) بما لا يشغل المشاهد عن مجريات العرض. بعد غياب استمر منذ عام 2008 اختارت (مريم علي) العودة إلى خشبة المسرح بعرض يلاقي الواقع الذي نعيشه، و إذ تعذّر وجود ما يتفق مع هدفها في النصوص المتوفرة، فقد قادها هذا الخيار نحو نصٍ لم ُيكتب بعد، كما قادها لأن تكون فكرة النص القادم حول المرأة، باعتبارها المتأذية الأكبر مما حل ببلدنا، وشيئا فشيئا بدأت ملامح هذه المرأة بالتبلور على الورق، بما جعلها نموذجاَ حقيقياَ من عشرات نماذج الضحايا التي أوجدها الواقع المأساوي، ولكنها في الوقت ذاته تنتمي إلى شريحة غير كبيرة، فهي ممثلة مسرحية وتلفزيونية تعيش وحيدة في أحد الأحياء القديمة في العاصمة، نعرف أنها مسرحية من الحوار ومجريات العرض، ونستنتج أنها تلفزيونية من تعرّف عنصري الأمن الجنائي عليها حين اختلط الأمر عليهما بين منزلها ومنزل جارتها، تعاني الممثلة، كباقي النساء، من الرعب الناجم عن قذائف الموت التي تمزق حالة مديدة من الأمان، ومن الخوف المتولد من تبدل العلاقات الاجتماعية، وتعاني، مثل أكثر النساء، من صعوبات الحياة المتزايدة، وتعاني، مثل نساء كثيرات، من الوحدة وغياب الرجل. لم يكن مستغرباً أن تختار (مريم) لبطلة عرضها مهنة الممثلة، فهي مهنتها التي تعرف تفاصيلها، وما أصابها في السنوات الأخيرة، وهي الأقدر على أن توصل ببساطة فكرة عميقة عن سعة الطيف النسائي الذي لحقه الأذى بأشكال مختلفة رغم تباين واقعه الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي، فبطلة العرض تنتمي إلى بيئة اجتماعية غير متزمتة، وتنعم باستقلال اقتصادي أتاح لها بدوره أن تكون حرة في خياراتها الحياتية، ومثلها صديقتها الموظفة الحكومية، لكن ذلك كله لم يجعلهما خارج دائرة المعاناة التي تستحضر الخوف اليومي حتى من الأشياء التي كانت فيما مضى حلماً جميلاً محبباً، إلى أن تقرر الصديقة الهروب من هذا الواقع دافعة معاناة الممثلة إلى أقصى درجاتها وهي تصل إلى حدود العزلة، وبين خياري الانهيار والمواجهة تنتصر لإرادة الحياة مُشرعةً الأبواب والنوافذ لشمس يوم جديد. مريم علي التي نجحت على الدوام - كممثلة - في تقديم أداء دافئ ومقنع وقدير، أضافت اليوم إلى إنجازها الفني نجاحها ككاتبة أنجزت نصاً محلياً متقناً، وكمخرجة عرفت كيف تصوغ عرضها برشاقة منحته القدرة على الوصول إلى المتلقي وجذب اهتمامه وإمتاعه، رغم قسوة وقائع العرض. ومنح المكان المزيد من (الحميمية) والمصداقية فقد قدم العرض الذي يمكن نسبه إلى مسرح الغرفة في قاعة منزل في دمشق القديمة يشغله محترف النحات (مصطفى علي)، ينفتح بابها ونافذتها على فسحة سماوية كبيرة بما يعمق الشعور بالمكان المفترض، ولعبت الإضاءة دوراً حيوياً في تعميق هذا الشعور. واستكمال عمل السينوغرافيا، وهنا لا بدّ من كلمة تقدير لعمل كامل أفراد الفريق الفني، ومعظمهم درس في المعهد المسرحي. من خلال ثنائية دورها في العرض كممثلة تعيش تفاصيل حياتها اليومية، ومن ثم كممثلة تتدرب على دورها، أعطت مريم علي (الكاتبة والمخرجة)، لمريم علي (الممثلة) فرصة جديدة لتأكيد مقدرتها وإحساسها العالي، وشكّلت مع آمال سعد الدين ثنائياً متناغماً وغنياً عمّق حضوره الممتع مقدرة آمال على تقمص شخصيتها بكامل بأدق تفاصيلها على صعيدي المظهر والحالة الإنسانية، ولست أعلم أي دور قامت به آمال في تحضير النص، ولا طبيعة مساهمة علاء الدين العالم فيه، وهو الذي سبق له أن قدم تجربة مسرحية مهمة.. غير أن ما أعرفه حق المعرفة أن مريم وفريق عملها، بمن فيهم أصحاب الأدوار الثانوية، قد قدموا لنا عرضاً سورياً أصيلاً متقناً وممتعاً يجب أن يكون حافزاً لسواه. www.facebook.com/saad.alkassem
|