ومن المفيد الإشارة إلى أن الكتابة عن هذه المرحلة ليست نابعة من تعصب وطني أو غيره وإنما عن استقراء موضوعي لمرحلة تاريخية وفهم ورؤية للواقع السوري والعربي والدولي مع تطلع شديد نحو المستقبل لدولة استطاعت أن تواجه مشروعاً خطيراً استهدفها واستهدف من خلالها كيان أمة تعرضت لأشد أنواع الاستهداف، فتكسرت على نصالها أطماع الغزاة وأوهام الطغاة ؛ لقد شهدت الفترة الممتدة من عام 2000 حتى 2010 أحداثاً هامةً شكلت انعطافاً حاداً في السياسة الدولية ولعل أبرزها أحداث 11 أيلول عام /2001/ وانعكاسها على السياسة الأمريكية وتداعياتها على دول العالم وخاصة منطقتنا العربية ولاسيما قضية الصراع العربي الصهيوني. لقد دشنت أحداث أيلول 2001 ما يمكن تسميته إبراز الإسلام وكأنه خطر يهدد العالم ومحاولة وسمه وربطه بالإرهاب إلى درجة ان ما يسمى فوبيا الإسلام تحولت الى ظاهرة في الحياة الغربية مترافقة مع حقن إعلامي أمريكي صهيوني بعدائية غير مسبوقة تجاه العرب والمسلمين في كافة أرجاء العالم.
و على خلفية تلك الأحداث وبذريعة مكافحة الإرهاب وملاحقة تنظيم القاعدة جاء احتلال العراق وأفغانستان مترافقاً مع صمت دولي وتأييد ومشاركة من بعض دول العالم لتلك السياسة الأمريكية. في ظل تلك الأوضاع وبيئة دولية غير صحية استطاعت إسرائيل استثمار تلك الحالة وبما يخدم مصالحها واستراتيجيتها العدوانية فحاولت التقاط الفرصة التاريخية من خلال استثمار القوة الأمريكية لضرب القوى التي ترى فيها خطراً عليها وعلى مشاريعها التوسعية، فكان استهداف العراق واحتلاله على أجندة المحافظين الجدد المتصهينين الذين يسيطرون على مفاصل السياسة الأمريكية ويحكمون القبضة على البيت الأبيض.
إن استعادة واستحضار الفصول الأولى من ذلك السيناريو لها من الأهمية بمكان لمقارنتها مع الواقع الحالي لأنها تبين حجم النجاحات التي تحققت في مواجهة ذلك، لأن العقل الاستراتيجي الذي خطط لاحتلال العراق وأفغانستان كان هدفه أبعد من ذلك ولم يكن الاحتلال إلا الموسيقا التصويرية التي تسبق الحدث في تراجيديا مكافحة الإرهاب الحديث عن لعبة الدومينو السياسي لم يكن حديثاً في الخيال السياسي بل كان خطة ومنهجاً استراتيجياً ، فالخطوات التي بدأت في أفغانستان وانتقلت للعراق كان المأمول لها أن تستمر بالاتجاه غرباً وحيثما استطاعت .
والسؤال هنا:
كيف واجهت سورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد ذلك المخطط الجهنمي المترافق مع ضعف وانعدام الفعالية الدولية والعربية بمواجهة الاندفاعة الأمريكية؟
بالعودة إلى إحداثيات الصراع والحراك السياسي يمكن القول إن سورية استطاعت أن تقوم بما يمكن وصفه بالمعجزة السياسية وذلك بالنظر إلى الواقع السياسي الذي يشكل المشهد العام في المنطقة والإقليم على وجه الخصوص وعلى قاعدة ان معرفة العدو وأهدافه هو نصف الطريق إلى الانتصار. فقد أدركت سورية وشخصت الأهداف الاستراتيجية الكبرى التي عملت أمريكا وإسرائيل على تحقيقها كهدف مواز لما جرى وهي إضعاف سورية وعزلها والقضاء على المقاومة اللبنانية والفلسطينية وفرض حل سلمي على العرب بشروط إسرائيل وتحقيق الهدف الكبير لأمريكا وهو شرق أوسط جديد أو كبير، مركز الثقل فيه إسرائيل وعجلاته العرب ومن يقف إلى جانبهم.
لقد حاولت أمريكا ومن معها تحويل النصر الوهمي في العراق الى هزيمة للعرب والقوى المواجهة للمشروع الأمريكي الصهيوني على قاعدة الصدمة والترويع والتركيع، ولكن ما حدث كان عكس ذلك فالنصر العسكري السريع الذي تحقق تحول بمرور الزمن الى هزيمة بطيئة وعلى مراحل سواء على صعيد الأهداف الاستراتيجية التي لم تتحقق بكاملها ام على الصعيد العسكري حيث تعتزم قوات الاحتلال مغادرة العراق خلال اقل من عام .
لقد كان الجهد السوري متركزاً على محاصرة ووأد المشروع الأمريكي وهو في حالته الجنينية وفي نقطة ارتكازه قبل أن يستطيل في اتجاهات أخرى ويحقق نجاحات تجعل من إمكانية مواجهته ولجمه مسألة في غاية الصعوبة... من هذا المنظور الاستراتيجي تعاملت سورية مع ماحدث وتركز جهدها على دعم الفعل الوطني المقاوم في العراق وسمّت الأشياء بأسمائها ولم تخفها لغة التهديد والوعيد وراهنت على الزمن ونسّقت مع الدول الصديقة والحليفة بما يحفظ مصالحها ويمنع قوى العدوان الأمريكي من تطويع المنطقة وشعوبها وفرض الهيمنة الأمريكية الصهيونية عليها.
لقد حاول الأمريكيون ابتزاز دمشق بطريقة الترويع والتركيع و فاتهم أن دمشق عصيّة عليهم.. هكذا كانت وهكذا هي الآن، فبدأ مسلسل المطالب الأمريكية بالتراجع إلى درجة أنه تحول إلى طلب المساعدة للخروج من الورطة والغوص عميقاً في الرمال العراقية التي كانت سورية قد حذرت ونبهت أمريكا من مخاطرها .
ان ذلك التحول يعكس حجم النجاح الذي حققته سورية وقدرتها على تحويل نقاط الضعف المفترضة إلى نقاط قوة في مواجهة الخصم وهذا ما سجله الأصدقاء والأعداء لأداء دمشق السياسي .
ولم يقتصر النجاح السوري في هذه الساحة فكانت له مواجهته على خط تماس آخر مع المشروع ولكن على الضفة الأخرى ومع كبيرهم الذي علمهم السحر ولكن دونما قناع فكانت الساحة اللبنانية ساحة صراع ولي اذرع وكسر عظام بين قوى المواجهة والمقاومة وجحافل قوى الشر وكان النصر من نصيب سورية ومن معها من قوى المقاومة على الساحة اللبنانية.
معركة أخرى خاضتها دمشق وعلى جبهات باردة وساخنة أحيانا ًوكان النجاح حليفها فيها حيث تعرضت لمحاولة محاصرتها سياسياً واقتصادياً بهدف انكفائها على ذاتها وتقليص دورها والحد من فعاليتها العربية والإقليمية وجعل هاجسها خلاصها الفردي ولكنها وهي التي امتلكت حصانة وتجربة قاسية في ذلك عبر عقود أربعة نجحت نجاحاً لافتاً في كسر محاولات تطويقها والحد من ديناميتها السياسية وأثبتت أنها دولة غير قابلة للعزلة بحكم الجغرافيا وغير قابلة للتجاهل بحكم التاريخ والأكثر من ذلك نجحت في عزل من كان يريد عزلها وباعترافه ونذكر هنا بما قاله الرئيس الأسد (ان من يريد عزل سورية فإنه يعزل نفسه عن قضايا المنطقة) .
سورية بحضورها وتأثيرها وإمساكها بأوراق المنطقة أعطت قيمة مضافة لأدوار دول في المنطقة والإقليم والعالم لم يكن لها ذلك الحضور الايجابي في خريطة المنطقة وخاصة ما تعلق منها بصراعنا مع العدو الصهيوني فأصبحت رقماً هاماً في المعادلة السياسية الدولية بشراكتها الاستراتيجية مع سورية وتنسيقها معها ولم يكن ذلك إطلاقا بديلاً عما جرت تسميته دول المركز والأطراف لأن الاستراتيجية السياسية السورية لا تقوم على قاعدة البدائل وإنما تتبع استراتيجية الفعل المتراكم والقيمة المضافة وهو ما يزيد الفعل العربي قوة وتأثيراً بمعنى آخر لم تكن الأدوار الإقليمية خارج المنظومة العربية بدائل لدور دولها .
إذاً: في مقاربة موضوعية للوضع في المنطقة موقوفاً في راهننا السياسي ينبئ ان الخط البياني للأداء السوري هو في حالة صعود مستمر وبوتائر عالية وفي أكثر من اتجاه فلم يعد الملعب السياسي السوري محصوراً في دول الإقليم بل امتد إلى الفضاءات الأربعة .
إن التوصيف السياسي للأداء السوري خلال عقد من قيادة السيد الرئيس بشار الأسد وبلسان وكتاب عرب وأجانب أصدقاء وأعداء بما فيهم الإسرائيليون يشير على أن طبيب العيون الذي جاء إلى سدة الرئاسة كان أسداً جديداً بكل المعاني وهو الزعيم الأهم في المنطقة خلال العقد القادم فسورية في ظل قيادته تلعب أكثر من دور وفي أكثر من اتجاه فهي تقيم شراكة استراتيجية مع كل من إيران وتركيا وتدعم حماس والمقاومة الوطنية اللبنانية، هي في الوقت الذي تفاوض فيه و بشكل غير مباشر إسرائيل وتعريها وتكشف حقيقتها الرافضة للسلام.
ويرى الكثير من الكتاب والسياسيين والمحللين في الرئيس الأسد الخصم القوي والعنيد والذكي في فن إدارة الصراع فهو لم يذعن لأحد في أشد حالات الضغط واستطاع أن يجعل من نقاط الضعف المفترضة نقاط قوة في حركته السياسية فبعد خروج الجيش السوري من لبنان أصبح اللبنانيون أكثر اتجاهاً وطلباً لدعم دمشق لاستقرار الأوضاع في لبنان وبالمقابل نرى الأمريكيين الذين اعتقدوا أنهم باحتلالهم للعراق يحكمون الطوق على سورية ويضعونها بين فكي كماشة يطلبون معونة دمشق لوقف عمليات المقاومة العسكرية في العراق والتمهيد لانسحابهم منها.
سورية اليوم ليست دولة تبحث عن دور كما يفعل غيرها وإنما تمارس دورها بحكم أهميتها ومسؤولياتها التاريخية و هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي ترسم سياستها وقرارها الوطني بمعزل عن تأثير أي دولة أخرى بل إن الآخرين يبحثون عن رأيها ومشورتها في شؤونهم الداخلية.
دمشق خاضت أشد المعارك السياسية قسوة وفي أكثر من جبهة وعلى الرغم من سقوط ميمنتها بغداد في أيدي المغول الجدد، وابتعاد ميسرتها عنها فترة قصيرة من الزمن، ومع مواجهتها لأقوى امبراطورية في التاريخ مع تواطؤ بعض ذوي القربى استطاعت أن تفرض أجندتها وتثبت للعالم أن الإرادة السياسية المتحررة من كل أشكال الارتهان والمستندة إلى قاعدة وطنية راسخة ومتفاعلة معها لا يمكنها أن تعرف أو تقف عند خطوط حمر .
عقد فريد من قيادة الرئيس بشار الأسد تجعلنا أكثر تفاؤلاً بعقد قادم من الإنجازات السياسية والاقتصادية والتنموية التي تصب في خدمة شعبنا وأمتنا العربية والإنسانية جمعاء .