ولكن الحقيقة هي غير ذلك، وهي أنني بدأت الكتابة منذ كنتُ طالباً ضابطاً في الكلية العسكرية عام 1950، وكان أول ما كتبت قطعة من الشعر المنثور بعنوان: «جَسَدٌ وَنَار» نشرتها لي مجلة «الدنيا» الدمشقية لصاحبها عبد الغني العطري، وذلك في عددها رقم 180 الصادر في 5 تشرين 1950. وقد أّتبعتُ هذه القطعة الشعرية بثلاث قصص قصيرة نشرتُها في مجلة «الدنيا» أيضاً تحت العناوين التالية: «بلا ثمن- خطيئة أم- نفثات القلوب الطاشة»، وقد نشرتُ بعضها بأسماء مستعارة مثل: إحسان سليم- أنيس ميقاتي... هذا قبل عام 1954، وأما بين 1954 و 1959 فقد نشرت بعض المقالات العسكرية عن المظلة والمظليين باسمي الصريح في «المجلة العسكرية» و«مجلة الجندي»، كما نشرتُ بعض المقالات عن السينما- التي كنتُ ولا أزال أعشقها. وبتوقيع «إحسان سليم» في مجلة «الجامعة» التي كان الصحفي نشأت التغلبي يصدرها في دمشق.
وعموماً يمكنني القول: إنّ جميع ما نشرته بين 1950 و 1960 لا يتمتع اليوم بالنسبة لي بأي أهمية، اللهم إلا تلك القطعة من الشعر المنثور «جسد ونار»، ليس لأنها أول قطعة نُشرت لي وذيلتها باسمي فقط، بل لأنها جرّت عليّ كثيراً من الإشكالات والمشكلات، سواء على المستوى المسلكي، أم المهني، أم الشخصي والعاطفي، وهاكم بعض التفصيل:
«إن قطعة «جسد ونار» كما يدل عنوانها هذا هي وصف لفتاة في منتهى الجمال، تجمع في شخصها الجمال الحسي من جهة، والجمال المعنوي من جهة ثانية، ولا أدري في الحقيقة أي شيطان شعر ركبني وجعلني أقول صوراً شعرية في منتهى الفرادة مثل: «عيناك سران غريبان، أغرب من أسفار السندياد» و «شفتاك ليلتان حمراوان من ليالي ألف ليلة؟» هذا بالنسبة للجمال الحسي، وأما بالنسبة للجمال المعنوي فقد خاطبت تلك الفتاة بالقول:
«أنتِ جميلة كعيون المها
طاهرة كأجساد الملائمة
عجيبة كصلاة الشياطين»
- أرسلتُ هذه القطعة -كما أسلفت أعلاه- إلى مجلة «الدنيا»، وقد أخطأت خطأً فاحشاً حين ذيلتها باسمي الحقيقي وعنواني: (إحسان هندي- الكلية العسكرية- حمص)، فجرّ عليّ هذا الأمر كثيراً من المتاعب:
- فمن الناحية المسلكية وقع عدد المجلة في يد النقيب مدير الدورة، فأنبني بعنف على نشر مثل هذا «العبارات الصبيانية» بدلاً من نشر مقالات عسكرية في مجلة «الجندي» والمجلة «العسكرية». كما أنّبني بعنف أشد على ذكر «الكلية العسكرية» ضمن عنواني الشخصي لأن في هذا مساس بكرامة الكلية وسمعتها!
- ومن الناحية المهنية: فتحت هذه القصيدة أمام عيني بعد الإعجاب الذي نالته لدى الأصدقاء، باب الانشغال، وبعد ذلك الا الاشتغال ، بالهم الثقافي وهكذا انخرطتُ في مهنة الكتابة والأدب بالإضافة لمهنتي الأساسية كضابط في الجيش، وبدأت أنشر منذئذ بأسماء مستعارة مثل: إحسان سليم، أنيس ميقاتي.... وغير ذلك.
- وأما من الناحية العاطفية: فقد أوقعتني هذه القصيدة في حب الفتاة التي وصفتها فيها، وهكذا أصبحت حالتي مثل حالة النحات اليوناني «بغماليون» الذي نحتَ تمثالاً يمثل امرأة ما، فعشق هذا التمثال. أو بالأحرى المرأة الظاهرة في التمثال وقد تأكد حبي للفتاة عندما تبينتُ أن وجودها «حقيقي» وليس من نسج خالي الشاعري فحسب، وها هو شرح ذلك:
بعد نشر المقطوعة في مجلة «الدنيا» بحوالي أسبوع. كنتُ أجلس مساء في ندوة الكلية مع بعض زملائي، حيث دخل أحد الجنود إلى الندوة وقال:
- الطالب الضابط إحسان هندي مطلوب على الهاتف في مكتب الإدارة.
خرجت وسألت الجندي عن الشخص الذي يطلبني فقال: إنها امرأة، وعرفت عن نفسها بأنها ابنة خالتك فُدهشتُ تماماً لأنه ليست لدي بنات خالات؟
وضعت سماعة الهاتف على أذني وبمجرد أن قلت «ألو» سمعتُ صوتها ملائكياً يقول بمنتهى الرقة وأنها تخاف أن يسمعها أحد غيري:
- ألو، السيد إحسان؟
- نعم، أنا هو.
- أحبُّ أن أهنئك على هذه القطعة الشعرية التي نشرتها بعنوان «جسد ونار»، شيء لا يُصدَّق، لم أقرأ مثلها في حياتي.
- شكراً يا سيدتي.
- بل آنسة من فضلك، حرامٌ أن تقول عني «سيدة وأنا لا زالت في السابعة عشرة من عمري!
- حسن يا آنسة، ولكن قولي لي مَن أنتِ ومن أي مدينة تتحدثين؟
- سوف لن أقول لك، بل قُل لي أنتَ أولاً كيف نظمت هذه القصيدة، ومن أين أتيت بهذه الأوصاف؟
- هذا سرُ المهنة. قولي لي هل تعرفينني شخصياً؟
- أنا أعرفك منذ قديم الزمان، منذ أن كنتُ في بطن أمي (وأتبعت ذلك بضحكة جَمعت فيها كل ما في العالم من أنوثة وإغراء).
- شكرا لكِ يا آنسة، والآن قولي لي: مَنْ أنتِ، ومن أي مدينة تتحدثين؟
- بل اسمع مني ماذا سأقول لك، سأرفع دعوى قضائية ضدّك يا سيد إحسان!
- خير إن شاء الله، ولكن ما هو سبب هذا الموقف العدائي مني؟
- لأنك اعتديت على شيء يخصني بالذات، اعتديت على قُدس أقداسي، هيا اعترف.
- أعترف بماذا؟ إنك لم تقولي إلا الألغاز!
- إذاً فاسمع: إن الأوصاف التي ذكرتها في قطعة «جسد ونار» لا تنطبق إلا على فتاة واحدة في العالم وهي أنا! وبما أن حقوق الملكية الأدبية مَصُونة لهذا سأرفع عليك الدعوى.
- هل تقولين الصدق أم تمزحين؟
- كَون القطعة تُمثل جمالي صدق في صدق، وأما رفع الدعوى فمن قبيل المزاح طبعاً.
- حَسَنٌ! متى سأراك؟
- سوف لن تراني الآن بل ستسمع صوتي فقط، مرة في الأسبوع كل يوم أربعاء!
- ها أنا أعرف أول معلومة عنك: طالما أنّكِ اخترت يوم الأربعاء، إذن أنتِ حمصية.
- شاطر! الآن أنا مضطرة لإنهاء المخابرة، هل تحبّ الأغاني الفرنسية؟
- طبعاً.
- إذاً سأسمعك أغنية «جاكلين فرانسوا» الناعمة:
«الحياة الوردية LAVIEEN ROSE»
وانطلق صوت جاكلين فرانسوا المخملي:
«عندما يأخذني بين ذراعيه
ويهمس كلماته في أذني همسا
أرى الحياة عندئذ بلون وردي!
إنه يهمس لي بكلمات حب
كلمات نسمع مثلها كل يوم
ولكنها تجعلني أرى الحياة بلون وردي».
...
لم تنته قصتنا عند هذا الحد، بل كان لها ذيول أخرى، ومن يمهمه الاطلاع على نهايتها يمكنه متابعة الحلقة الثانية من هذا المقال، والتي ستكون بعنوان:
«صديقي الغالي نزيه الجمالي..
وذات العينين الخضراوين».
جسد ونار
تقولين صفني..
ماذا أقول؟
أنا الخجول
أنت.. ما أنت
أنت جميلة.. كعيون المهى
طاهرة.. كأجساد الملائكة
عجيبة كصلاة الشياطين
أنت.. أنت أبرأ من وجه طفل
أنت أفتن.. من الطريق إلى الهاوية.
أنت ألطف.. من نسيم
ماذا؟ ألا يكفي؟
إذن هاك:
شعرك نسيج من أنسجة الظلام.
جبينك.. صفحة غرام.
بل كتاب عبادة ذو أوراق فضية
أنفك رأس
أفعى.. أفعى لا تسم
عيناك سران غريبان
أغرب من أسفار السندباد
شفتاك ليلتان حمراوان
من ليالي ألف ليلة
صدرك حلبة سباق
يتسابق بها نهداك المتعجرفان
في الطفور
إلى الأمام
أما جسدك جميل
وأجمل ما فيه أنه جسدك.