لقد تحكمت أحداث (الحادي عشر من أيلول) بالحراك السياسي العالمي عبر الاندفاع الرهيب للإدارة الأمريكية من خلال ما سماه (بوش الابن) الحروب الاستباقية. وبعد خمس سنوات والخسائر المادية والمعنوية الفادحة في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وما أحاط بها من أحداث.. تحرك أمرٌ ما في العالم, فحواه: أن العالم لا يمكن أن يُدار إلى ما لانهاية على إيقاع ردة فعل على جريمة إرهابية.. أدانها الرأي العام العالمي الذي ضاق ذرعاً بهذه السياسة الأمريكية التي تقود العالم من حربٍ إلى حرب ومن كارثةٍ إلى كارثة وبشروط أمريكية إسرائيلية بحتة لا تراعي مصالح أحد.. ولا تلتفت إلى تعقلٍ أو حوارٍ مع أحد..
جاء العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان في الثاني عشر من تموز لتشهد البشرية بالصوت والصورة فظاعة هذه السياسة.. وتفتح الأعين بذات الوقت على الصمود المذهل وتصدي المقاومة اللبنانية الباسلة الأسطوري لآلة الحرب الوحشية وبالتالي لهذه السياسة الأحادية الجانب والتي لا ترى إلاَّ صورتها في المرآة.. ولقد أدركت (الإدارة الأمريكية ومعها إسرائيل) أن للقوة حدوداً.. وإن للشعوب والإرادة إذا ما صممت وتصدَّت فعلها التي لا يمكن لأحدٍ أن يدير لها ظهره.. توقفت الحرب.. وبدأت التداعيات..
في الجانب الإسرائيلي.. ارتفعت الأصوات.. وسُنَّت السكاكين.. وبدأ رشق الاتهامات.. بالتقصير والفشل والهزيمة.. وثمة من كان أكثر جرأة في الكيان فيعترف: (إن ما جرى في لبنان هزيمة تاريخية لإسرائيل).
ثم جاء القرار /1701/ لتغطية فشل الهجمة الصهيونية الأمريكية على أطفال لبنان وشيوخه ونسائه وبيوتهم.. في محاولةٍ لتعويض المعتدي عما فشل في تحقيقه فشلاً ذريعاً.. وهذا جانبٌ من المرئي في اللوحة..
إن كل ما شهدناه حتى اليوم يؤكد أن المنطق الأمريكي الصهيوني الذي فشل في كل مكان.. يحتاج إلى مراجعة حاسمة.. فمن يريد محاربة الإرهاب عليه تجفيف الينابيع التي يشرب منها وأولها وعلى رأسها الإقرار بالحقوق المشروعة للفلسطينيين... وإعادة الجولان المحتل حتى خط الرابع من حزيران عام /1967/ .. وما تبقى من الأرض اللبنانية المحتلة.. وترك الشعب العراقي يختار مستقبله بحرية من دون تدخلاتٍ أجنبية!.. خاصةً بعد التقرير المدوي لمجلس الشيوخ بأنه لم يكن للعراق علاقة بالقاعدة.. ولم يكن يملك أسلحة تدمير شامل.. أي أن الأساس الذي بني عليه غزو العراق قد انهدم بكامله..
إن المكابرة الأمريكية الصهيونية عبر تصدير فشلهم إلى الآخرين.. لم يعد مجدياً.. ولن يقدم للمنطقة وشعوبها إلاَّ مزيداً من الألم والدم والدموع.. والمقاومة أيضاً..
فلقد شاهد الأمريكيون وحلفاؤهم الانفجار الشعبي الهائل للشعب العربي كله وللشعوب الإسلامية وأحرار العالم الرافض للهمجية الصهيونية على لبنان.. والدعم للمقاومة اللبنانية الباسلة وكانوا قبلها يروجون لغزوة سريعةٍ تنهي كل شيء.. لكن الحقائق أذهلتهم.. لن يكسبوا بالسياسة ما عجزوا عنه في الحرب.. إنهم يدركون ذلك.. والمشهد مفتوح على احتمالات متعادلة للحرب والسلام.. ولعلَّ ما نتابعه من ثقب الجدار في المفاوضات المرتقبة بين أوروبا وإيران.. يزيد القناعة بأن منطق الحرب الأمريكي لم يعد مجدياً.. ولا بدَّ من مسارٍ آخر.. وهذا لا يعني أن طبالي الحرب وزماريها قد سكتوا وتراجعوا.. إنهم يجمعون أوراقهم المبعثرة ويعيدون حساباتهم.. ويقرؤون المتغيرات والتداعيات التي أملتها النتائج الميدانية للحرب الوحشية الفاشلة على لبنان التي كانت حصيلتها هزيمة عسكرية مُرَّة للآلة الصهيونية على الأرض.. الوقت عندهم الآن للتفكير.. لكنه يضيق والوحش الجريح الساكن يتلوى.. ويحاول عبر أدواته هنا وهناك أن يملأ الساحة بالضجيج ويثير الغبار لحجب الحقائق الساطعة.. وهذا يرتب على الشعب العربي في كل الوطن أن يتنبَّه ويستعد.. إنهم في الغرفة المظلمة يعدون الخطط ويعيدون القراءة.. وعلى القوى الحية في الشارع العربي.. أن تستعد بذات الحماس والاستنفار النبيل الذي شهدناه أثناء التصدي الباسل للعدوانية الصهيونية على لبنان.. للوقوف بوجه مرتكبي المجازر وحلفائهم.. فالهزيمة مُرَّةٌ في حلوقهم.. وشوكها ينغزهم بألمٍ ممض.. فإذا كانت الاحتمالات مفتوحة فإن علينا الاستعداد لكل تداعياتها.. لم يعد مسموحاً لنا أن نستكين للهدوء.. إن الواجب يقتضي أن نفتح عيوننا على آخرها... لقد واجهنا بشرفٍ ورجولةٍ وشجاعة وبصوتٍ مؤثرٍ ومرتفعٍ وأصيل.. إنهم في الغرفة المظلمة يعدّون المؤامرات... فانتبهوا.....