تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


إدوارد سعيد... نبذ الهامش واحتل بقعة الضوء

كتب
الأربعاء 4/6/2008
د. منذر شباني

عودتنا المدارس ألا نكتب على هامش الصفحة, وكل دفاتر المدرسة التي استخدمناها في طفولتنا تركناها مملوءة بالكتابة إلا الهوامش خالية,

وفي حياتنا الاجتماعية طالبنا الجميع بعدم العيش على الهامش, وأن علينا أن ندخل سباقاً مريراً مع أترابنا وأبناء مجتمعنا لنعيش في المركز نعيش تحت بقعة الضوء,ونترك الهامش لغيرنا, ويتحدث التاريخ عن المهمشين عن المنفيين داخل مجتمعاتهم وخارجها, واليوم يقسم العالم إلى أول المركز حيث التقدم والازدهار, ودول الهامش حيث التخلف والانحطاط بهذا المعنى صار الهامش مصدر خوف للجميع , فالهامش يحمل دلالة المنفى دلالة الشتات وإذا كان المنفى في دول تعريفاته يعنى اقتلاع الإنسان من المكان الذي ولد فيه, من الجغرافيا فإن للمنفى معنى أكثر خصوصية عندما يتعلق الأمر بالفكر والمفكرين, فالمفكر لا يكون كذلك إلا إذا كان منفياً, وإذا لم ينف المفكر قبل الآخرين فعليه هو أن ينفي نفسه, وهنا لا يعود النفي مجرد اقتلاع من الجغرافيا بل أكثر من ذلك, إنه نفي المفكر لنفسه بعيداً عن المألوف والسائد بعيداً عما قدم إليه على أنه نهائي ومحتوم, بحيث يأخذ بالنظر إلى ذلك المألوف والنهائي على أنه مؤقت وعابر وغريب, ما يساعده على تحقيق جدلية الاتصال والانفصال مع العالم الذي يعيش فيه وبناء عليه فإن كل حالة فكرية هي حالة نفي والمفكر الحقيقي هو المفكر المنفي إنه الشخص الذي يعيش في فضاء الهامش, ففي هذا الفضاء فقط يحقق المفكر حالة من الالتزام والاستقلالية تجاه قضاياه التي يتناولها وعلينا إذاً, والحال كذلك أن نمعن في نفي أنفسنا, أن نعيش شتاتاً حقيقياً, إذ كلما غرقنا في الشتات وجدنا أنفسنا في نقطة المركز وكلما أمعنا في نفي أنفسنا عن أشياء العالم وقضاياه وجدنا أنفسنا أكثر التزاماً وأكثر قدرة على إعادة إنتاج تلك القضايا وتلك الأشياء باستقلالية تامة وندرك الآن لماذا تموت الفراشة بسرعة وهي تحوم في الضوء وحوله فلا تدرك الفراشات أن سعيها نحو الضوء إنما هو سعي نحو حتف سريع وإتمام لدورة حياة قصيرة ومعطوبة سلفاً, ولكي لا يتحول المفكر إلى فراشة فعليه أن يغادر المركز وأن يقبع في الهامش وأن يكتب من ذلك الفضاء وإذا صح الأمر بالنسبة لأي مفكر, فما الذي يمكن أن نقوله عن (إدوارد سعيد) المفكر الفلسطيني الذي عاش في الشتات بالمعنى الجغرافي,وعاد هو نفسه لينفي نفسه داخل ذلك الشتات ,الأمر الذي مكنه من إعادة قراءة التاريخ كفلسطيني يعيش الشتات أولاً, وكمفكر جاء فكره كنتاج للبنية الكولونيالية التي عاش فيها ثانياً إدوارد سعيد الذي عانى وطنه ويعاني حتى اليوم من ويلات الاستعمار الكولونيالي والذي وجد نفسه شخصاً يعيش في بيئة كولونيالية, وتلك معضلة حقيقية, فبين الوطن (فلسطين) الذي يعاني من الكولونيالية وبين الغرب الذي عاش فيه (سعيد) وهو الغرب الكولونيالي بامتياز كيف كان على إدوارد سعيد أن يكتب ويفكر دون أن ينحاز دون أن يقدم خطاباً متعاطفاً مع أحد الطرفين فلسطين والغرب هاهنا تبرز أهمية العيش منفياً بالنسبة لإدوارد سعيد وهو نفي داخل النفي, شتات داخل الشتات, وهو بالضبط ما مكن إدوارد سعيد من المساهمة الجوهرية في صياغة المناقشات المعاصرة حول الاستشراق وتحليل الخطاب والسياسات المضادة ودراسات ما بعد الكولونيالية, إدوارد سعيد المنفي قسراً وطوعاً في الوقت نفسه, والذي امتلك وعياً عميقاً بعمق ذلك النفي المضاعف استطاع كشف النقاب عن مسائل خطيرة وموضوعية في آن حول الإيديولوجيات المهيمنة التي دعمت الامبرايالية الثقافية الممعنة اليوم في توسيع رقعة الهامش وتكريس حالة النفي والشتات.‏

الكتاب: إدوارد سعيد وكتابة التاريخ, المؤلف: شيل داليا - ت: أحمد خريس , ناصر أبو الهيجاء, دار الأزمنة, عمان 2007‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية