بين طرفي نقيض
يبدو مغامراً ومتمرداً حتى على تجاربه، فعندما وصل إلى أقصى حدود التجريد في لوحاته التي قدمها في بداية السبعينات، ما لبث أن تناسى نقطة الوصول وعاد من جديد إلى أقصى حدود التجسيد، حين قدم لوحات واقعية تضاهي في حيويتها الصورة الفوتوغرافية، بعد ذلك برزت تحولات جديدة في مسار تجاربه المتواصلة، وأصبح يبحث عن الإشارات التعبيرية والتكثيف الشكلي، الذي ظهر في لوحاته كأبجدية من التشكيل الشاعري، وحين عرض لوحاته في المركز الثقافي الفرنسي خلال عام 1992 أصبح همه موجهاً نحو لغة تشكيلية جديدة، تقتنص إشارات المنظر الخلوي لإبراز حركة دائمة ما بين التجريد والتبسيط. فمن خلال لمسات الفرشاة العريضة، استعاد الطبيعة بأرضها وسمائها وعناصرها، وبذلك اختصر صورة الحداثة والفن المعاصر، فالرسم طليق، والألوان لا تركن إلى شكل نهائي، يحركها الانفعال الداخلي، الذي يعيشه أثناء إنجاز اللوحة، فالتأليف قائم على الرسم المنساب طلاقة وحرية، وفيه مزيج من العنف والحرية، في التعبير واللغة اللونية تحمل الأثر المباشر لتجربة الفن الحديث.
ألوان حية وصريحة
من هنا يبدو رضا حسحس (من مواليد دمشق عام 1939) في أعماله هذه، متعاطفاً مع الفنون الباريسية الحديثة، في حبه للألوان الحية والمتفجرة والعنيفة، التي نراها في لوحات الطبيعة بشكل خاص، لكنه في تجربته يبقى على صلة باللون المحلي، الذي يبرز بشكل مباشر عبر اللمسات اللونية الصريحة (الحمراء والصفراء والبيضاء) فالضربات اللونية العفوية والمباشرة، التي ميزت أعمدة الحداثة الفرنسية من جيل الوحشيين (ماتيس ودوفي وفلامنك) إلى جيل التجريديين، تتحول إلى أجواء اللون الشرقي حين يمنحها إيقاعية لونية، متوهجة قادمة من تأملات أجواء اللون السائد في المنظر الطبيعي المحلي.
هكذا يظهر الإيقاع اللوني في لوحاته، غنياً بالأضواء المشرقة، ليعبر من خلاله بحساسيته الجمالية عن المناخ اللوني المحلي، الذي يحث الألوان آخر الأمر على التنفس، ويجعلها تحمل إيقاعاً ونبضاً مكانيا،ً عبر فيض الإضاءة الذي ينعكس على المشاهد راحة ومتعة، فهو يبتعد عن المشهد الطبيعي في اتجاه العمق. معارضاً كل ما هو ثابت، باحثاً عن نظرة متبدلة للعالم الطبيعي، يفهم فيها المكان على أنه بطور التكوين، لتصعيد النبرة الجمالية المحلية. مبدعاً إيقاعات لونية متتالية. تكشف العمق المكاني وتقربه من المشاهد إلى أقصى حد، فالأشكال المشهدية المنظورة، تتحول إلى أشكال أولية، يحركها هاجس البحث الدائم عن الحداثة الحقيقية، يسيطر الهم التجريدي، ثم يتراجع أمام دلالات الأشكال المستمدة من الواقع، ليدور الكل في عمومية لونية، تكسر رتابة الحركة الطبيعية المرئية. وتحمل نبضاً يتسم بسرعة الإيقاع والحركة والأداء. وعلى العكس من ذلك يقترب رضا حسحس، الذي درس الفن في دمشق وباريس والولايات المتحدة الأميركية، وأقام مجموعة واسعة من المعارض المنفردة في الداخل والخارج، في صياغة لوحات الأزهار من أجواء اللمسة اللونية الهادئة، والشفافة التي تجسد ملامح تحوله من مظاهر الفن الأوروبي، لما بعد الوحشية، إلى الفن الشرق آقصوي (الفن الصيني والياباني) بحيث تنحاز الرؤية هنا، أكثر فأكثر نحو إشراقة الداخل أو نحو النسيج البصري المرهف والشفاف.
facebook.com/adib.makhzoum