ومع ذلك فقد بقي تاريخ هذه القارة متعدد الوجوه، يُكتب لأمدٍ طويل بشكلٍ مختزل، وذلك نتيجة عائقين: من جهة، أنتج الاستعمار أيديولوجية ظالمة لا ترحم المؤرخين، وتدفعهم للبحث في الماضي عن سمات تبرز الحاضر؛ ومن جهة أخرى، كان حقل الدراسات التاريخية محدوداً جداً بسبب طغيان المصادر المكتوبة، ما يستثني جميع المجتمعات التي تعيش على الرواية الشفاهية، لهذا السبب تُركت دراسة الشعوب التي لم تكن تعرف الكتابة إلى الأنثربولوجيين الذين اتجه الكثيرون منهم إلى توضيح واقع معاصر وإسقاطه على الماضي، مؤكدين فكرة أن البنى التقليدية لم تتطور، إذ إن تاريخ أفريقيا في المقام الأول هو تاريخ استعمارها، جرت دراسته اعتماداً على الوثائق الصادرة عن السلطات الاستعمارية التي لا تذكر وجهة النظر الأفريقية إلا من خلال مرشح هذه السلطات.
ولأجل تصحيح هذا الخطأ، ورفع الغبن عن هذه القارة التي طالما صُنفت على أنها حديقة خلفية لباقي المجتمعات، كان كتاب «أفريقيا في القرن العشرين» وهو كتاب أقرب إلى الموسوعة لكل ما يتعلق بهذه القارة على مدى مئة عام من السنين قامت بإعداده هيلين دالميدا - توبور، وعرّبه الدكتور صباح ممدوح كعدان في كتاب صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
حيث ترتكز مقاربة الباحثة لتاريخ القارة الأفريقية في القرن العشرين على ثلاث أفكار: السرد الزمني: بما أن قارة أفريقيا تقاسمتها عدة دول أوروبية، ودمجتها كلياً في (نظام - عالم) فقد عاشت في القرن العشرين زمناً عالمياً، ولما كانت قارة مسيطراً عليها، ومن ثم تابعة، فقد نظمت الأحداث العالمية الكبرى التي شاركت في مجراها بشكل غير متساوٍ إيقاع تطورها، تحدد أربع مراحل تاريخها: نهاية الغزو الاستعماري في فجر القرن العشرين، وتعزيز استغلالها إبان الحربين العالميتين وأزمة الثلاثينات - الاقتصادية، والمسيرة نحو الاستقلال، تتبعها حقبة الآمال الخائبة، ثم صدامات الثمانينات وصولاً إلى الوقت الحاضر، وتلح على العصر الحديث لرؤية مآل مكانة أفريقيا في العالم وتقديم حصيلة في المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
بعد هذا السرد الزمني تأتي المقارنة: فقد ولدّت السيطرة الاستعمارية، ثم النظام العالمي الجديد مشكلات متشابهة في القارة كلها، ثم هناك التنوع: فقد كانت ردود أفعال الشعوب الأفريقية على مسائل متشابهة ردوداً متنوعة وفقاً لثقافتهم الخاصة بهم. ويظهر هذا التنوع في دراسة حالات، وأمثلة متنوعة، ومسارات فردية أو جماعية.
وهنا نذكر، إنه في السنوات الأولى من القرن العشرين، أصبحت بعض الدول الأوروبية تحتل القارة الأفريقية بكاملها تقريباً، وكانت نجمت خارطة القارة الأفريقية الاستعمارية ورسم الإمبراطوريات الاستعمارية في الوضع الذي كانت عليه في بداية القرن العشرين عن التوسع الأوروبي الذي شهدته العقود السابقة، واندمجت في سيرورة كلية، حيث سيطرت بريطانيا وفرنسا وحدهما على ثلثي القارة الأفريقية تقريباً عشية الحرب العالمية الأولى، وتذكر الباحثة إن أهم نتيجة من نتائج تقسيم القارة الأفريقية الاستعماري هي إعادة توزيع السكان داخل وحدات سياسية جديدة، وأدى توزيع شعب واحد بين عدة بلدان إلى تمزيق وحدته الثقافية، وتطور كل فرع منه في إطارات مختلفة تحكمه، وعلى النقيض، جرى جمع سكان من أصول مختلفة في مستعمرة واحدة، غالباً مصطنعة، دون أن يؤخذ في الحسبان ماضيهم، وما يمكن أن يوجد بينهم من عداوات متجذرة، وأرغمت إجراءات قمعية المتمردين على الخضوع، منذ ذلك الوقت، أصبحت مجبرة على التكيف مع المعطيات الجديدة لكي تنقذ نفسها.
وبقي الأمر كذلك على وقع المرارة حتى غداة الحرب العالمية الثانية، فقد سرّعت هذه الحرب الوعي الوطني وانتشار المطالب في القارة الأفريقية كما في أجزاء أخرى من العالم الخاضعة للسيطرة الأجنبية، واتسمت العقود التالية لنهاية الحرب بمقارعة الاستعمار في المستوى الدولي وفي البلدان التابعة، في حين أن سيرورة إزالة الاستعمار التي بدأت في آسيا، بلغت أفريقيا في منعطف خمسينات القرن العشرين، وخلال خمس عشرة سنة أدى ضغط العوامل الداخلية والخارجية إلى استقلال القسم الأكبر من القارة الأفريقية، وتحررت آخر المستعمرات لاحقاً.
استقبلت الشعوب الأفريقية نهاية الاستعمار بحماسة. ولم يكن على سبيل الصدفة أن كانت الأغنية التي حظيت بلا شك بأكبر نجاح في منعطف الستينات كان عنوانها (استقلال، تشا - تشا)، لقد بدا أن الحصول على السيادة السياسية سيجلب في الوقت نفسه، الحرية، والشروط اللازمة لتقدم القارة ووحدتها، حيث كانت الدول الجديدة يحدوها أمل، لكن كان تفاؤل السنوات الأولى يسير إلى زوال كلما زاد الإحساس بضعف البنى وتصادمت مصالح متباينة في الداخل والخارج. ولاتزال القارة التي يصرون على حضورها ملونة «السمراء والسوداء» راسخة على عدم الاستقرار.
تأتي أهمية كتاب (أفريقيا في القرن العشرين) من قراءة لشاهدة من أهل القتلة، لتبرز كل هذا الفجور الكوني الذي يلبس الحرير على مخالب.
alraee67@gmail.com