سيظل الموضوع مثار جدل، بما في ذلك تحديد تاريخ الظهور الأول للصفر المستقل في الشرق بهنده أو صينه. لكن هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على اعتبار الحضارة الهندية أول من أدرج الصفر في المعادلات وفي حل المسائل. كانت الرياضيات الهندية قائمة على ما يشبه القصائد الشعرية، وتعود أقدم الوثائق الهندية التي تكرِّس الصفر كرقم مستقل في السلسلة 0,9,8,7,6,5,4,3,2,1 إلى القرن الخامس الميلادي.
تلك السلسلة التي نتعامل معها اليوم تلقائياً وتطالعنا في عديد من الاستخدامات الاعتيادية بعد ألف وخمسمئة عام من ذلك التاريخ، في تلك الوثائق الهندية القديمة، يسمى الصفر (سونيا)، وهي لفظة سنسكريتية مرادفة لـ «فراغ» أو «فضاء»، وهناك رسمات مختلفة لهذا الرقم تتدرج بين الدائرة الصغيرة المفرغة والنقطة الواقعة أسفل السطر، أياً يكن الأمر، فإن الإسهام الهندي في هذا المجال يتجاوز عملية إعطاء الصفر استقلاليته كرقم إلى إدراك فرادة قيمته على خط الأعداد، كفاصل برزخي بين عالمين، عالم الأعداد الموجبة، وعالم الأعداد السالبة، وتُعد القدرة على تصور المقادير السالبة (الأقل من الصفر) والتعامل معها كمعطيات في العمليات الحسابية قفزة نوعية في تطور العلوم البشرية، ولعل الدافع الأول لهذا الإدراك للقيم الموجبة والسالبة ولموقع الصفر بينهما كان استيعاب مفاهيم «الربح» و«الخسارة» في التعاملات التجارية التي تطورت كثيراً منذ أيام البابليين. وقد طوّر الهنود علم الحساب بشكل كبير إذاً، وتجاوزوا به حدود عدّ رؤوس الماشية فكانوا من أوائل من أدرك الخصائص الفريدة للصفر كما حددها الرياضي الهندي (براهماغوبتا) في القرن السابع الميلادي من خلال القواعد التالية:
• حاصل جمع الصفر وعدد سالب هو عدد سالب.
• حاصل جمع الصفر وعدد موجب هو عدد موجب.
• الصفر مضافاً إلى صفر يعطي صفراً.
• حاصل قسمة عدد موجب أو سالب على الصفر تعطي نسبة عشرية.
• الصفر مقسوماً على صفر يعطي صفراً.
هذه القواعد على بدائيتها - وعلى علّاتها - مثّلت تطوراً مدهشاً لفهمنا لقيمة الصفر وتأثيره الحسابي، وتُعد من المقدمات لثورة في علم الرياضيات حمل لواءها العلماء العرب المسلمون خلال القرون التالية:
بين بغداد وقرطبة: الصفر يولد من جديد عرف العرب الصفر لغوياً وكفكرة منذ القدم، غير أنهم لم يبتكروا نظاماً عددياً خاصاً بهم إلا بحلول القرن التاسع الميلادي (الثاني الهجري)، حين بات بلاط الخليفة العباسي المأمون الموئل الأول للترجمة والبحث في العالم، وقابله في الأهمية والأثر بلاط الخلفاء الأمويين في الأندلس.
في بغداد ازدهرت مدارس من قبيل (دار الحكمة) حيث اشتغل محمد بن موسى الخوارزمي على تطوير علوم الأمم الأخرى والبناء عليها وبفضل ترجمة أعمال الهنود وسواهم، ابتكر الخوارزمي علم الجبر الذي يقوم - كما يوحي الاسم - على حل المعادلات ذات المجاهيل عبر جبر النقص بين طرفي المعادلة، كما طوَّر الخوارزمي طريقة متسلسلة لحل المعضلات الرياضية - كانت موجهة أساساً لمسائل المواريث - ولا يزال هذا الأسلوب منسوباً له حتى اليوم ويعرف بالخوارزميات. الصفر رمز دولي
مرّ زمان كان الصفر فيه رمزاً لرفاه غير متاح للجميع، وكان ذلك قبل أيام الهاتف المحمول وقبل شبكات الإنترنت اللاسلكية، حينذاك كان خط الهاتف الأرضي هو وسيلة التواصل الأسرع عبر الحدود وبين القارات، لكن ليس لكل الناس، فالخط (الدولي) الذي يستلزم أن تستفتح مكالمتك بـ (صفر) باذخ لم يكن لأي من مشتركي خدمة الهاتف، وكان ذلك الصفر يتطلب وساطة للحصول عليه أولاً، كما لم يكن الكل مستعداً لتحمل نفقات استخدامه الباهظة مقارنة بالرقم المحلّي.. الذي لا يبدأ بصفر.
ذلك الصفر الدولي تحول لعلامة فارقة بين الطبقات في بعض المجتمعات، غالباً ما كان شيخ القرية أو كبير الحيّ مستحوذاً على الصفر في هاتفه (الحكومي) الذي قد يتاح لذوي الحظوة بين فينة وأخرى، والأحياء المحظوظة نعمت بوجود هاتف عمومي قد يتيح الصفر إن سمحت ظروف المقسّم، وتمنُّع الصفر الدولي على عموم الشعب فتح الباب أمام فرص التكسب. مضى زمن كانت فيه (كابينة الهاتف) مثل «البزنس» المربح، حيث يمكنك كزبون مقابل مبلغ ما أن تشتري دقائق لتتحدث مع مَنْ تحب أو من تحن إلى صوته، أو أن تقضي وقتك في مكالمة خارج مدينتك أو دولتك مستمتعاً بنعمة الصفر الدولي متجاوزاً الحدود! قد تكون النسخ الأولى من مؤلفات (براهماغوبتا) وصلت إلى العرب زمن الخليفة المنصور. والثابت أن الخوارزمي قد استوعب معارف الهنود والبابليين فحسّنها وعدّل فيها، ومن ذلك اعتماده لشكل الصفر ولسلسلة الأرقام الهندية كلّها، وتحديد دور الصفر في حل المعادلات الخطية ومن الدرجة الثانية. بحيث توضع دائرة أو نقطة مصمتة في خانة الناتج إذا كان حاصل العملية صفراً كي لا يلتبس الأمر على القارئ.
إن الدور الذي قام به علماء الحضارة الإسلامية، هو مثل نفخ الروح في الصفر وسواه من الأرقام التي لا تزال حية ومعتمدة عالمياً إلى اليوم بفضلهم، إضافة لتكريسهم لقواعد الحساب والجبر الحالية ولنظام الفاصلة العشرية، ثبّت العلماء المسلمون أشكال الأرقام، وقرروا أن الصفر على شمال العدد ليست له قيمة عكس الصفر على يمينه، كما يُعتقد أنهم قد طوروا رسم الأرقام - التي باتت تُعرف بالعربية - مستوحين رسمة كل رقم من عدد الزوايا التي تحملها، واللافت أن الصفر كان برسمتيه الدائرية والمنقوطة خلواً من أي زوايا.