تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


إيقاع الذكــريات فــي ســـير الحركــة التشـكيلية

ثقافـــــــة
الاثنين 4-2-2013
 أديب مخزوم

(التشكيليون يستعيدون إيقاعات ذكرياتهم الفنية والحياتية) موضوع جديد قد لايكون قد طرحه أحد من قبل، مع إننا بحاجة ماسة لأن يشهد الفنان لنفسه، ويؤرخ لتجربته، حتى لا يأتي من يشهد عنه، بعد رحيله، فيزور الحقائق والأحداث والوقائع والتواريخ، ويعطي الدارسين والقراء صورة مشوهة، عن حياته وفنه.

وفي الواقع لانستطيع في هذه الاستعادة البانورامية الموجزة،الإحاطة الشاملة بالكتب التي وضعها فنانونا لأنفسهم، انها مجرد خطوة، قد تتبعها خطوات مكملة في المستقبل، آملين أن يتمكن كل فنان من وضع الخطوط الأساسية في سجل ذكرياته اليومية، حتى تسهل المقاربة، ويظهر التباين،وتتضح الحقائق، في سير الحركة الفنية التشكيلية السورية المعاصرة.‏

-1-‏

في الكتاب الذي أصدرته صالة تجليات في نيسان 2009عن المشوار الحياتي والتشكيلي للفنان نذير نبعة، فقرة تفصيلية تحت عنوان (سيرة) تتضمن أهم الأحداث الفنية والحياتية في مسيرة فناننا الكبير، ولقد نشرت هذه التفاصيل والتواريخ بإشراف الفنان نفسه، لأن صدور الكتاب ترافق مع معرضه الاستعادي في تلك الصالة.‏

ونتأمل في سياق استعراض سيرته الذاتية،العديد من صوره الطفولية النادرة المأخوذة من ألبوم العائلة، كما نتعرف على مراحل وتواريخ تحولات تجربته الفنية، منذ بداية دراسته الأكاديمية في الزمالك – القاهرة في مطلع ستينات القرن الماضي، وصولا الى مرحلته الأخيرة.‏

فالواقع ان تجربته قد عرفت تحولات وتنقلات عديدة، ووصلت الى مراحل الاختزال، والى حدود استخدام العجائن الخشنة الاكثر جرأة وعفوية وحرية، في صياغة عناصر الاشكال الانسانية والنباتية. حتى اننا نستطيع ان نكتشف تعددية لاكثر من ثلاثة اتجاهات واضحة، ظهرت في تنويعات اعماله التي قدمها بعد مرحلة الدراسة الاكاديمية في القاهرة وباريس.‏

ومن خلال تأملاتي الطويلة لصور بعض لوحاته المنشورة في الكتاب،وجدت انه استخدم لمسات اكثر من اسلوب في معرض واحد. فالتصادم اللوني والتقني اعتمده اذا في مراحل سابقة بقصد ابراز حدة احاسيسه وتقلباتها ما بين الهدوء والانفعال.فهو في معالجاته للون والعناصر كان ومنذ بداياته،يتنقل بين السكون والحركة، وبين الواقعية والتجريد، وبين التجسيد والتلوين، كل ذلك بهدف تجاوز النمط التصويري الواحد، والوصول الى الطروحات الجمالية الاكثر شمولية، والتي تزيد من حالات ارتباطه بالعصر الراهن الجامع لكل الحالات والتناقضات.‏

وفي مراحل لاحقة، ولاسيما في السبعينات والثمانينات، استعاد في لوحاته العناصر المختلفة بدقة واقعية تفصيلية،على الطريقة الشرقية الارابسكية،فاتحا ينابيع الاشارات الزخرفية الدقيقة عبر تداعيات المرأة والحنين الشاعري المنبثق من رؤى مسرح احلام الف ليلة وليلة. وفي سياق استعادته لتفاصيل ازياء وجواهر وجماليات واجواء ناس ايام زمان، اكتشف عن طريق النماذج التراثية المحلية والشرقية (الأزياء التقليدية،الصدفيات،الزجاجيات والاواني المزخرفة،الجواهر والحلي...) ان اللوحة هي فسحة بصرية يمكن من خلالها اعطاء الحلم الشرقي مسافاته الشاعرية،وهنا نلمس خلاصة مهارته التصويرية ودقته التفصيلية ومنهجه العقلاني المعبّر عن التصميم المتماسك، الذي يتولد من خلال تدرجات الظل والنور والرموز المختلفة والمكثفة التي تربط بين تكاوين الاشكال المختلفة، ذاهبا الى توليف الاشكال الواقعية بطريقة خيالية واسطورية ورمزية احيانا،رغم انه يحافظ في احيان اخرى،على الجو الواقعي للشكل أو المشهد المرسوم.‏ والمرأة لديه تأخذ شكل الاسطورة وتطل لتعبّر عن مشاعر الحنين، الى رؤى الحلم ونشوة حياة الزمن الغابر،كل ذلك في محاولة لكسر الطوق الخانق في عالم اليوم اللاانساني،والعودة الى ذكريات الاشكال الموزعة في زوايا البيوت الشرقية القديمة.‏‏

وفي لوحات الكتاب، التي هي وثائق ذاتية،نستشف تركيزه الدائم لاظهار عناصر المرأة بنظرتها الثاقبة، والتي برزت في بعض لوحاته وهي محاطة بنباتات الزينة والفواكه والازهار، مع اتجاهه لإبراز التواءات وثنيات الثوب،عبر تقنية خاصة تصل الى تغطية مساحات من اللوحة، وتضفي الحيوية والحركة والاجواء الخاصة على عمله الفني. وصولا الى تفاعله المطلق في أعمال مرحلته الخيرة،مع الحرية التعبيرية المستمدة والمتفاعلة مع ثقافة الإشارات اللونية التجريدية،القادمة من الإحساس التذكري، المنبثق من مشاهدات الفنان لجروف صخرية شاهقة اكتشفها أثناء تأملاته -على حد قوله- لبعض المناطق الجبلية المحيطة بمدينة اللاذقية. فسطوح لوحاته الأخيرة رغم تجريديتها، فهي تذكرنا بجدران المغاور والحضارات القديمة، وتثبت من جديد الرموز التاريخية والاسطورية، وتحول اللوحة بالتالي الى سجل لذكريات طفولته ونشأته في بيت طيني في منطقة المزة في دمشق.‏

-2-‏

ويبدو الكتاب الذي وضعه الفنان التشكيلي الراحل غازي الخالدي كوثيقة فنية، تنقلنا مباشرة الى تفاصيل حيوية ذكرياته وسيرته الفنية والذاتية، حيث المواقف الصريحة تجاه الفن والحياة والمجتمع والسياسة، والكتاب بهذا المعنى يشكل مدخلاً للأجيال القادمة، لأنه خلاصة لتجربة ومعاناة وكفاح فنان اعتبر الفن رسالة، وبأن اهم حدث في حياة شعب، يكمن في قيام نهضة فنية وثقافية فيه.‏‏

هكذا حقق غازي الخالدي حلم حياته بصدور كتاب (الخالدي 1950-2000) وهو يقع في 300 صفحة من الحجم الكبير، ويتضمن ذاكرة التجربة الفنية والكتابات والصور الوثائقية التي تمتد الى 65 عاماً في بعض الاحيان، حين كان في الخامسة من عمره. فالصور الضوئية المنشورة تعيدنا الى زمن الابيض والاسود، انها صور مأخوذة من ألبوم شجرة العائلة، وبعضها الآخر مأخوذ من معارضه، مع شخصيات سياسية واعلامية وفنية وادبية بارزة، وتعتبر بمجموعها بمثابة مدخل وثائقي يلقي اضواء على نشاطاته حسب المفاصل المختلفة.‏‏

وفيه يتحدث عن نشأته في أحياء دمشق القديمة،التي بقيت مطبوعة في مخيلته، وظاهرة في لوحاته، فهو لم يقدم لنا لوحات تجريدية أوروبية، وانما قدم لوحات مرتبطة بهاجس تراثي وبيئوي وتطلع حيوي نحو الاستعانة بالرموز الوطنية والقومية.‏‏

فالرموز التي اعتدنا على رؤيتها في لوحاته ترتقي الى مستوى اللغة الفنية المناضلة،المعبرة عن وجدان الشعب، وضمير الثورة،كما أن المرأة العارية المجسدة في بعض لوحاته هي رمز الارض المقهورة والمستباحة.‏اما الحصان فيجسد انطلاقة الثورة مع الجماهير العربية.‏

وغازي الخالدي لم يكن فقط رسام الاشكال الرمزية الجمالية الحية،وانما كان قبل كل ذلك صاحب اللمسة اللونية الملتهبة، التي تحولت في خط تصاعدي،او تطور روحي نحو اللونية المحلية التي اتخذها، كمنطلق حيوي للتملص ولو بشكل جزئي من‏ تأثيرات الثقافة التشكيلية الفرنسية، التي تركت اثرها الواضح والمباشر على كل النتاج العربي المعاصر.‏‏

هكذا ازدادت قناعته يوماً بعد آخر بضرورة التعلق بالوهج اللوني، الموجود في حياتنا اليومية او في المشهد المحلي العام. وهو في لوحاته يبقى على ارتباط بالواقع والصورة، حتى حين يصل الى حدود التبسيط والاستواء اللوني،بحيث يمكننا الحصول على مساحات لونية تجريدية في المقطع الواحد او في المساحة الواحدة من لوحته التعبيرية.‏‏

-3-‏

ولقد اصدر الفنان خالد المز كتابا استعاد فيه مراحله الحياتية والفنية، وما يمكن أن تثيره من تجليات وتأملات منذ مرحلته القاهرية،حين غاص في مسائل البحث عن جماليات الفن الفرعوني، الذي استعاد تداعياته في لوحاته،وغذى اهتمامه بمعطيات الفنون المعاصرة،لايجاد الحرية التعبيرية من خلال التفاعل مع التنويعات الخيالية والاسطورية.‏

ولقد ركز على موضوع العائلة او موضوع الجماعة الانسانية،معتمدا على ابراز الروح الحوارية، بين المساحات المعتمة والمضيئة،وموليا اهمية احيانا لتدرجات الظل والنور، التي توهم بحضور الابعاد الثلاثة في المدى التصويري.‏ والفنان المز معروف كعميد سابق لكلية الفنون الجميلة ما بين 1982 و1991 وهو استاذ لاكثر من رعيل فني، وكان قد حاز على شهادة شرف تقديرية من وزارة الثقافة في مهرجان المحبة 1997 وله العديد من المعارض الفردية والجماعية في الداخل والخارج.‏‏

-4-‏

والكتاب الذي وضعه الفنان والناقد التشكيلي أسعد عرابي، وصدر عن «غاليري أيام» في دمشق خلال عام 2007 يبدو أكثرمن سيرة ذاتية عن مشواره الفني والحياتي، وفيه يوضح مواقفه وهواجسه وتطلعاته الفنية، و جاء في 300 صفحة من القطع الكبير، وحمل عنوان (أسعد عرابي.. شهادة اللوحة) واشتمل على مختارات من أعماله، منشورة بطباعة أنيقة ومميزة، مع نص مطوّل كتبه عرابي. كما احتوى الكتاب على بعض النصوص النقدية التي تناولت معارضه ونشاطاته الفنية المتواصلة، إضافة لسيرته الذاتية.‏‏

وإذا انطلقنا من نص عرابي المطوّل الذي جاء في أربعة عشر باباً، نستطيع متابعة الخط البياني، الذي يسير عليه من لوحاته الأولى التي رسمها ضمن محترفات كلية الفنون الجميلة في دمشق منذ مطلع الستينات، وصولاً إلى لوحات معرضه الأخير.‏‏

والكتاب يبدو أيضا بمثابة بيان تشكيلي يوضح العناصر الأساسية، لاسيما على صعيد تغيير النظرة الجمالية إلى مدينة دمشق القديمة، حيث يمكن اعتباره أول فنان يكسر الصورة الواقعية المألوفة عن دمشق القديمة، ويغوص في أعماقها ويعيد صياغة رموزها ومعالمها وناسها من منطلق جمالي حديث وخاص.‏

فنصوص الكتاب التي وضعها عرابي بنفسه هي المدخل الحقيقي لتأمل خلاصة تجربة تزيد على الاربعين عاماً من التفاعل مع تلقائية اللون ومعطيات الذاكرة، وما يسمى بموسيقى نغم الألوان وصياغة شعر المناخ الغنائي لإيقاعات ألوان المدن الشرقية،المعانقة للموج وطيف أشرعة المراكب (ما تبثه لوحته التجريدية من أجواء شرقية حالمة لأضواء وأنوار وألوان أشكال العمارة الصيداوية والمراكب ومدى فسحة البحر التي تكشف سر نزعته التلوينية الجانحة في بعض لوحاته نحو إيقاعات اللون الأزرق بدرجاته الخاصة) تلك الدرجات اللونية المتفردة التي تشكل –على حد تعبير عرابي- مجموعة ألوان المرافئ المتوسطية.‏ علاوة على استيحاء الأسطورة السورية القديمة ضمن نزعة تعبيرية وتبسيطية وتحويرية واضحة.‏‏

-5-‏

ولقد اصدرت صالة أيام كتابا عن مراحل فن التشكيلية ليلى نصير, أحاط بتنويعات مواقفها وتجاربها الطويلة،التي ترجع لأكثر من اربعين عاماً. ويمكن اعتباره أيضا بمنزلة سيرة ذاتية، وهو يتضمن بعض صورها منذ ايام طفولتها، ويحتوي على مجموعة متنوعة من لوحاتها القديمة والجديدة, والتي تستوحي فيها الاشارات التاريخية, في خطوات التعبير عن عالم المرأة والوجوه وصولا الى الامساك بشاعرية المشهد الخيالي, الذي يفيض غرابة وطراوة ونضارة. اضافة لاحتواء المعرض على بورتريهات شخصية ومجموعة من الرسومات السريعة،التي تختصر الاجساد الانسانية، بأقل ما يمكن من الحركات الخطوطية العفوية والتلقائية.‏ والكتاب يعرفنا على مختلف المراحل التي سجلت تحولات تجربتها الطويلة, فمن طريقة الرسم الواقعي بأقلام الرصاص (دراسات اكاديمية) الى اعتماد التقنيات الطباعية «المينوتيب» الى استخدام خليط المواد المختلفة في اللوحة الواحدة «ميكست ميديا» مروراً بالرسم الزيتي والشمعي والباستيل.. ووصولاً الى تحديد اشكالها وعناصرها بخطوط رصاصية, واضفاء فسحات لونية شفافة تستفيد من بياض اللوحة, الذي يصبح داخلاً في اللعبة البصرية في السياق التكويني و التلويني.‏‏

ومن خلال هذا التنوع الأسلوبي والتقني،وصلت الى لوحة فنية حديثة،عكست قدرتها في المجاهرة بالأزمنة التشكيلية،في دلالاتها التعبيرية والرمزية والواقعية والخيالية والاسطورية،الشيء الذي يفتح نصوص مساحات لوحاتها على احتمالات تعبيرية وجمالية غير محدودة وغير متناهية.‏ ونصوص الكتاب وايضا لوحاتها القديمة تؤكد ارتباطها منذ بداياتها بانسانية الانسان في معاناته اليومية، وهي قبل أي شيء تحمل هاجس التجديد والبحث, حيث تجدد ألوانها, وتغير في مناخاتها، وحركاتها بين لوحة وأخرى, من دون ان تخرج عن المناخ ا لعام المشحون بالانفعال الداخلي والزمن المضطرب والمتوتر.‏‏

-6-‏

وقد يكون الفنان حسان ابو عياش من أكثر الفنانين التشكيليين السوريين، اهتماما بكتابة وتوثيق تفاصيل سيرته الذاتية، التي تابعنا بعض فصولها على حلقات في مجلة فنون (مجلة الإذاعة والتلفزيون) تحت عنوان: رحلتي مع الفن والديكور. ولقد بدأ بنشرأحداث هذه المذكرات في عدد 10-7-2008 وفي الحلقة الأولى يقول حسان بأنه كان يسجل على دفتر يومياته مايهمه من وقائع وأعمال، وحين عاد اليها أثارت في نفسه الأطياف والرؤى فهرع لتدوينها قبل ان يطويها عامل الزمن والنسيان.‏

ولقد ترافقت المذكرات باستعادة صور من شجرة العائلة من أيام الأسود والأبيض، صور طفولة وفتوة من أيام دراسته في السويداء وحلب،وفي مذكراته يشير أنه من مواليد عام 1943 في مدينة السويداء من والدين لبنانيين، ثم انتقل مع اسرته الى حلب بين عامي 1953 و1960، حيث تلقى دروسه الأولى في مدرسة الأخطل الرسمية بحي العزيزية، ثم انتسب في المرحلة الإعدادية الى المعهد العربي الفرنسي «اللا ييك» وتابع دراسته في مدرسة القديس نقولاوس، وثانوية المأمون، وقد لفتت رسوماته ولوحاته الأنظار في مراحله الدراسية كافة. كما استعاد في مذكراته بعض لوحاته التي انجزها في تلك المرحلة. وفيها نستطيع ان نتابع بوضوح تطور تجربته الفنية وتدرجها من الصياغة الواقعية الدقيقة وصولا الى إبراز اهتمامه المطلق بالزخرفة العربية المبنية على هيكلية الهندسة الفراغية، والتركيز لإظهار السطوح المتقابلة والمتوازية والتي تدخل فيها الزخارف الهندسية البسيطة والمركبة (مثلثات، مربعات مخمسات، سداسيات، اطباق نجمية متجاورة ومتبادلة ومتداخلة ومقلوبة) كل ذلك بألوان هادئة ومساحات صارمة وخطوط مستقيمة،تحدد البنى الهندسية الزخرفية المستعادة من نسيج الحضارة العربية، والتي اتخذها منذ بداياته الفنية الفعلية كمدخل ومنطلق لبناء لوحة عربية حديثة ومعاصرة، حتى انه كان يبحث في مراحل سابقة عن علاقات جمالية جديدة تدمج بين معطيات العمارة وتجليات الإيقاع القادم من الآرابيسك كتعبيرعن طاقة الاحساس الحي بجمالية الزخرفة العربية التي تتواصل بعفوية وبقوة مضاعفة في بعض اتجاهات الفنون الحالية في مدلولاتها البصرية المباشرة وغير المباشرة.‏

ورغم تخصصه بفن الديكور التلفزيوني كانت اللوحة هي الهاجس الدائم في دفتر يومياته، وبعد تخرجه في عام 1965 من كلية الفنون، وجد نفسه ينحاز وبقوة نحو إيقاعات المشهد المرسوم بعين طائر، أو كما يظهر من نافذة طائرة وهذه النظرة تركت تأثيراتها الواضحة فيما بعد على بعض لوحاته، التي جسد مشاهدها من الأعلى، كما أن أعماله في مجال هندسة الديكور جاءت متوافقة مع تطلعاته الجمالية المرتبطة بمخططات تنظيم المدن الحديثة، وتقسيماتها الهندسية التي شكلت المنطلق لصياغة لوحات تلك المرحلة (لوحات: تكوين طبيعي وصخور وأزهار وغيرها).‏

وهو يعترف في مذكراته بتأثره بجماليات الفن البصري ورائده «فازاريلي» أو فن «الأوب آرت» القائم على وسائل خداع البصر، دون أن ننسى أن لوحاته كانت ولا تزال وليدة اطلاعه المتجدد على الفن الزخرفي الهندسي العربي والشرقي عموماً.‏

هكذا ظهر اهتمامه الكبير بالزخرفة الهندسية العربية التي جهد طوال أكثر من أربعة عقود لتحويلها إلى فن تشكيلي بصري معاصر. فالحديث عن مسيرة حسان أبو عياش الفنية يستدعي التوقف طويلا أمام جوانب أساسية من اهتماماته اليومية والتي تتمثل في عمله في مجال الديكور التلفزيوني منذ عام 1966، حيث قام بتصميم ديكورات منوعة لأعمال تلفزيونية ومسرحية وسينمائية معروفة و شهيرة.‏

وكان حسان أبو عياش قد أصدر في مطلع تسعينات القرن الماضي، كتاباً فنياً أنيقاً وملوناً تضمن مجموعة من لوحاته في مجال التشكيل التجريدي الزخرفي. تم اتبعه بكتاب آخر مماثل أصدره عام 2003 تحت عنوان (تجارب في الديكور التلفزيوني) وهما يشكلان ايضا مدخلا لمعرفة تفاصيل مشواره الفني والحياتي الطويل.‏

-7-‏

والكتاب الذي صدر عن الفنان المغترب عمر حمدي – مالفا، في بداية انطلاقته الفنية،تحت عنوان (عمر حمدي – قصة حياة ولون) يشكل مدخلا للتعرف على بعض تفاصيل بدايات حياته الفنية، ولقد كانت تجربته هامة للغاية ومثمرة على الدوام وقادرة بمرونة موهبته الفذة في التكوين والتلوين معاً، على ترويض وتكييف وتوليف العناصر التشكيلية وغنائية اللون المحلي الذي يشع في لوحاته كبريق ضوئي مقطوف من نورانية ألوان الشرق. فالعودة إلى بريق اللون المحلي هي محاولة لإعادة لوحاته إلى منطلقاتها الأولى، ليس فقط كفن إشاري (تجريدي) وإنما كحركة اختزالية متوافقة مع جمالية التبسيط الهندسي (تقطيع اللوحة إلى ما يشبه المربعات والمستطيلات) والقائمة في جوهرها على جمالية اختزال عناصر الواقع، ضمن منطق موسيقي يرتكز على تناغم إيقاعات المربع أو المستطيل أو التقاسيم اللونية العازفة على أوتار المشاعر.‏

وكتبه اللا حقة الأنيقة في إخراجها وطباعتها، والتي اصدرها في بلدان الاغتراب،كشفت ايضا عن مواقفه الذاتية وتحولاته المتواصلة في بنية النص التشكيلي، التي تتوالد من سياق الطروحات الفنية الحديثة، التي تظهر بعض الانحياز أو العودة إلى الواقعية التصويرية الجديدة (وجوه واقعية أو تعبيرية على خلفية لونية تجريدية) مع انحياز واضح كما أشرت، نحو الحركة والوهج وإيماءات الإيقاع الغنائي للونية المحلية المرئية بالإحساس، أي بالعين الداخلية.‏

ولا يزال يصر على مبدأ الحركة التعبيرية الغنائية في التكوين الفني، ويحرص على إظهار اللمسات اللونية كإيقاعات عفوية (ارتجالية) وعقلانية (التوازن بين اللمسة والأخرى) لزيادة الإحساس بالحركة من خلال اللون والنور، على أساس أن هواجس التركيز على مظاهر الحركة،تدرج ضمن إيقاعات البحث عن جمالية حديثة تلغي القشور، وتبقي فقط على الحركة المتواصلة لألوان الأشياء، باعتبارها الطبيعة الحية المرئية بالإحساس. والتأثير المباشر لتطلعاته الانطباعية يظهر بشكل واضح في لوحاته التجريدية عبر ألوانه الغنائية المتباينة والمتراقصة.‏

-8-‏

وكتاب (التحول) الذي أصدره الفنان علي سليمان،يعطي القارئ فكرة شاملة وواضحة عن تحولات وانعطافات تجربته الفنية، خلال الأربعين سنة الماضية،إضافة لاحتوائه على لوحات عديدة منشورة بالألوان وبالأبيض والأسود، مع إشارة إلى مواصفات الطول والعرض،والمواد المستخدمة وتاريخ إنجاز اللوحة، وبعض هذه اللوحات شاهدتها لأول مرة، في الكتاب، رغم متابعتي الطويلة لأعماله ومعارضه، وتسليط الضوء التحليلي والنقدي عليها مرات عديدة في بعض الصحف المحلية والعربية.‏

كما يكشف الكتاب عن مدى حساسية الفنان البصرية والروحية، التي غذتها قراءاته المتواصلة ومشاهداته وتأملاته لأعمال كبار الفنانين في القرن العشرين، وحواراته المباشرة مع العديد من الفنانين الألمان المعاصرين، الشيء الذي ساهم في إغناء تجربته الفنية على الصعيدين الأسلوبي والتقني. وهذا الكتاب سيساعد الباحثين والدارسين والمتابعين والراغبين بالكتابة عن تجربته الفنية الطويلة،والمتنوعة بمواضيعها وأساليبها وتقنياتها.‏

والكتاب يوضح تحولات تجاربه على الشكل التالي.. ففي المرحلة الأولى الممتدة بين عامي 1970 و1980 طغت على تجربته مواضيع المرسم والموديلات الحية والصامتة المألوفة في المحترف الأكاديمي. ولوحات تلك المرحلة حملت كل مقومات اللوحة الفنية الحديثة والمعاصرة، على الرغم من ارتباطها بموضوعات المحترف الأكاديمي، وهذه ناحية قلما يتحدث أو ينتبه إليها أحد من النقاد والفنانين والمتابعين.‏

وفي المرحلة الثانية الممتدة بين عامي 1980 و1990 برزت تحولات جديدة،في خطوات العودة إلى معالجة مواضيع المحترف الأكاديمي، حين ركز على موضوع المرأة العارية، التي جسدها بلمسات تعبيرية وبحركات اختزالية، لم تتوقف عند المظهر الإغرائي في جسد المرأة، وإنما تجاوزته إلى حدود البحث التشكيلي والتقني والجمالي، المرتبط بمعطيات اللوحة الفنية الحديثة والمعاصرة. إضافة إلى المواضيع الأسطورية والتراثية والأشكال الصامتة والعمارة الدمشقية القديمة، التي تحولت إلى مجرد اختصارات، ولم يبق منها سوى إشارات النوافذ والأقواس والخطوط المعمارية الأفقية والشاقولية، كما ركز في بعض لوحات تلك المرحلة لالتقاط الأضواء المشعة داخل النوافذ والقناطر وإظهار امتداداتها في الأزقة والظلال.‏

وفي المرحلة الثالثة الممتدة بين عامي 1990 و2000 أقام معارض فردية ومشتركة في عواصم ومدن محلية وعربية وعالمية، قدم سلسلة لوحات تحت عناوين (مابعد العشاء الأخير وحواء والتفاحة وجلجامش وعشتار ورسالة ديموزي وغيرها.‏

وعلى الصعيد التشكيلي والتقني، يمكن اعتبار مرحلته الثالثة خطوة في اتجاه تثبيت دعائم لوحته المعبرة عن عفويته وانفعاليته وتوتراته الداخلية، حيث استعاد في لوحات تلك المرحلة مجد اللمسة التعبيبرية والتجريدية، ودمج بينهما في خطوات التخلي عن القشور الخارجية للموضوع المطروح، والوصول إلى الازدواجية مابين الروح والمادة، عبر الحركة الدائمة المقروءة في حركات الفرشاة السريعة والمتشابكة والمتداخلة بحرية كاملة ومطلقة.‏

وفي المرحلة الرابعة الممتدة من عام 2000 والمتواصلة إلى الآن، برزت بعض التحولات على صعيد الموضوع المطروح، في انحيازه نحو استيحاء بهجة ألوان الربيع وتقلبات المناخ في الفصول الأربعة، من خلال العمل على مواضيع الطبيعة ونهر قيس والحديقة والسنديانة، التي حمّلها ملامح خطواته الفنية الجديدة وتطور إيقاعاته اللونية العفوية، من خلال معايشته وتأملاته لها، من داخل مرسمه (برج الطيور) المطل على النهر والوادي وأجزاء من مرتفعات ومنخفضات منطقتي صافيتا والدريكيش. ولقد تابع في المرحلة الرابعة مواضيع الأسطورة وحواء والتفاحة والآلهة القديمة والعشاء الأخير، وأضاف إليها مواضيع السيدة العذراء والسيد المسيح وعيد الميلاد والنبي وغيرها.‏

-9-‏

ولقد برز اهتمام الفنان النحات غزوان علاف (من مواليد دمشق 1973) بتوثيق بعض اعماله، وتواريخ أحدات حياته في كتاب فني أنيق وفاخر، من القطع الكبير (مربع الشكل) حمل عنوان (وجوه مضاءة بالحلم) احتوى مجموعة من صور أعماله، مع إشارات لمواصفات الطول والعرض والخامة المستخدمة في كل عمل، ولمحة تعريفية عن حياته ونشاطاته ومعارضه، وهذه التفاصيل ستساعد النقاد والباحثين في استشراف آفاق تجربته الفنية، التي توضحت معالمها وخصوصيتها في منحوتات المرحلة المحددة في الكتاب.‏

هكذا حقق غزوان رغبة بارزة في إطلاق كتابه الحاضن لأشكاله الفراغية،المتجهة نحو الأداء الأسلوبي العقلاني في أكثر الأحيان، حيث يبتعد عن الأداء الارتجالي والانفعالي، ويعمل لتكريس لغة تشكيلية نحتية بحتة، تهدف إلى إثبات الحضور الفني في خطوات التقطيع والتركيب والنحت، وفي تعامله مع الكتل الخشبية المنحوتة يذهب لإظهار الخطوط شبه المتوازية، في خطوات تقطيع الكتل وتركيبها ونحتها التي تتضمن في الغالب وجهاً إنسانياً، وهو يستفيد أحياناً من جمالية العقد والحركات اللونية المتموجة والمتواجدة في جذوع الأشجار والمتشكلة بعوامل الطبيعة.‏ رغم أنه في منحوتات أخرى لا يمتنع عن الانجراف في التجسيد الأكثر اقتراباً من الواقع أو من الصورة المرئية في الحيز العيني.‏ علاوة على أنه يعمد في أحيان كثيرة على إظهار الفراغات داخل حيز الكتل المركبة، التي توحي بحضور حركة عناصره النحتية (ولاسيما الوجوه والأشكال الإنسانية والسمكة والطيور والعناصر النباتية) في الوقت الذي يحافظ فيه على الصياغة الأسلوبية الممسوكة بالمناخ العام، الذي أراده منطلقاً لإظهارعلاقة عمله بالثقافة التشكيلية الحديثة والمعاصرة. والفنان التشكيلي بشكل عام،حين يوثق أعماله في كتاب، فهو يوضح سيرته التشكيلية ويقول مايريد قوله، فهذه سيرة ذاتية من نوع آخر.‏

-10-‏

والفنانة التشكيلية سارة شمة (من مواليد دمشق 1975) قدمت سجلا لحياتها وبعض اعمالها في كتاب، وبالعودة إليه يمكن إزالة الإلتباس الذي يمكن أن يحصل في خطوات الكتابة عن مشوارها الحياتي والفني. ونجد في الكتاب، بعض مؤشرات تحولات فنها نحو الأجواء الحلمية والخيالية والسوريالية، ونحو مظاهر التفاعل مع إيقاعات الفن الواقعي،وهذا ما نجده على الأقل في لوحاتها التي ترسم فيها نفسها بطريقة أقرب ما تكون إلى الواقعية الفوتوغرافية، والتي تأتي كردة فعل معاكسة لتوجهات الفنانين المعاصرين الموغلين في التبسيط والتجريد، وهنا يكمن سر نجاح وشعبية لوحات سارة، في كونها تستمد مقومات بحثها التشكيلي والتقني، من تفاعلها المطلق مع الاحساس الشعبي العام بصياغاتها الفنية الواضحة والمفهومة والقريبة من عواطف ومشاعر الناس من مختلف الشرائح والأعمار والمستويات العلمية والثقافية،‏رغم اتجاهها في لوحات اخرى نحو التخييل الشكلي السوريالي، مع إضفاء أجواء لونية أحادية خاصة بالفنانة نفسها.‏ وهكذا نجدها تعود إلى الوجوه والأجساد الإنسانية والحيوانية بأسلوب واقعي أحياناً، فتعالجه بجماليته المباشرة، وبقدرة أدائية عالية في صياغة التفاصيل الصغيرة، غير أنها تعمل في أحيان كثيرة على إضافة بعض الضربات واللمسات والحركات اللونية على بعض الأماكن الواقعية، كما تذهب إلى إدخال بعض المسطحات اللونية الهندسية المستوية والفراغية في المشهد الواقعي، وإضافة تلك الضربات اللونية العفوية على مساحة اللوحة، في خطوات التخلص من الصياغة الواقعية الواعية والهندسة العقلانية،الضاغطة على الانفعال بكثير من الرقابة والرصانة والرزانة.‏‏

( facebook.com(adibmakhzoum‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية