التي غالبا ما يعالجها كحالات إيمائية مسحوبة من ترسبات وتداعيات الذاكرة المتعبة، في لحظات الاقتلاع والتهجير، القادم من مآسي الحروب وويلاتها. وهكذا يتفاعل مع معطيات الواقع بلغة تعبيرية، توازن بين التجسيد والصياغة المختزلة والمعبرة، عن رحلة القلق والآلام والتطلعات الشاحبة.
وفي بعض أعماله الأحدث يتجه نحو مظهر ابراز المجسمات الخشبية في المدى الفراغي، وضمن العلاقات الكتلوية، حيث يجعل المجسم الخشبي الشاقولي في عمله ( منحوتته: امرأة وحمامة ) يربط أو يصل بين أعلى المنحوتة وأسفلها أحياناً، بينما تظهر الحمامة على مجسم خشبي أفقي مجاور، وقد يجعل المنحوته تعلوالمكعب الخشبي أو تقطع المجسم أوتظهر على أطرافه او جوانبه بطريقة النحت النافر« الرولييف» ( منحوتاته: رجل ومكعب وحكاية الحياة وغيرهما).. وتأتي هذه الخطوات، التأليفية، في سياق بحثه التشكيلي النحتي، القائم على علاقات جمالية وفكرية وحضارية رصينة ، رغم كل المظاهر العفوية المتواجدة في اللمسات المباشرة والتلقائية ، وبذلك فهو يظهر قدرة تشكيلية، تضاف الى قدراته السابقة في مجال التصميم الفراغي المتوازن والمدروس .
تنوع تقني
ومن الناحية التقنية يعتمد مادة البرونز والحجرالصناعي والبوليستروالخشب والخزف والجص وغيرها، حيث يتبع في البداية طراوة الحركة التي تسكن جسد الكتلة الخام، ومن هذه الحركة ينطلق نحو الإيقاع الفني، الذي يوازن بين الأداء الواقعي وحيوية البناء أو الاكتشاف التعبيري الذاتي، وبمعنى آخر يتفحص الكتلة الخام ويغير في إيقاعاتها ومن ثم ينطلق لإظهار هذا الواقع الخفي، الذي يعبر عن تحولات الحالة العاطفية عبر الحركات والالتواءات والإيقاعات المتحررة التي تحدد الجسد، الذي يتمثل امامه أثناء فترة العمل في المحترف أو التفكير في المنحوتة.
والمنطلق التبسيطي لتطور تجربته النحتية، يعيدنا إلى معطيات الفنون السورية القديمة، التي أدهشت في بداية القرن العشرين، العديد من الفنانين المحدثين ، ونجد الحضور القوي لهذا الفن في بعض أعماله ( لقاء، تكوين، عناق وغيرها) .
وأعماله النحتية، التي جسدها منذ بداياته النحتية في مدينة مصياف، كإشارات حديثة، ما لبثت أن تعمقت أكثر فأكثر، أثناء مرحلة الدراسة الأكاديمية في دمشق، ثم تنوعت على الصعيدين التشكيلي والتقني ( بعد مرحلة دراسته الأكاديمية العليا في المانيا، ووصلت إلى تقديم الحركات الانسانية بطريقة النحت النافر- الرولييف ( تفاصيل من الحياة اليومية، الاحتفال وغيرها ) حيث جسد حركات الأشخاص في فضاء ذي بعدين، وبمزيد من الاختصار والاختزال، مركزاً على عنصر الحركة الحية والنابضة للاشخاص في عمله الأول عبر شرفات ونوافذ الأبنية المحلية او الشرقية .
وعلى هذا نجده يتعامل مع المواد والتشكيلات المختلفة، وضمن خطه الأسلوبي، وفي التقنية يتابع تجربة ما يسمى بالملمس الخشن والملمس الناعم، أي مسار إظهار تنويعات السطوح، وما تعكسه الإيقاعات الجمالية، التي تسكن قلب الكتلة وجسدها، الشكل والمضمون، في آن واحد.
وأعماله تجمعها سمة واحدة، هي الدراسة المتأنية، حتى في أقصى حالات العفوية، وهذا يجعله يتعامل مع الكتلة بوعي وعقلانية، لا تخلو من بعض اللمسات العاطفية، التي نجدها في الضربات المباشرة والعفوية، الموزعة بمنطق عقلاني في أماكن متفرقة من عمله النحتي الفراغي والجداري .
وعلى الرغم من إلمامه الواضح بكافة تفاصيل التشريح الجمالي، فهو يعطي أهمية قصوى لتعابير وانفعالات حالته الداخلية، التي تترك أثراً واضحاً على منحوتاته، من خلال اعتماد الضربة العفوية أحياناً، وترك أقساماً غير منحوتة من الكتلة الخام أحياناً وحسب متطلبات بحثه التشكيلي والتقني .
وبصورة عامة تبدو منحوتاته متينة والعلاقات بين الضربة والأخرى مريحة وهادئة، وهي تجنح لتقديم جسداً لينا مطواعاً، دون أن نجد فيه جماد الكتلة القاسية، فالأجساد تأتي بوضعيات مختلفة، تتأرجح بين تلك التي تتمثل في تقديم الصدر بانطواء نحو الخلف أو بانطواء نحو الأمام( مجموعة أعمال : امرأة تتمطى ، امرأة جالسة ، العناق ، لقاء، امرأة مستلقية وغيرها) . كما يتدرج في تقديم المنحوتة من تلك التي تشعرنا بالعزلة والوحدة والحزن ( انكفاء، البرد، وجه امرأة وغيرها ) ، إلى تلك التي تعبر عن عاطفة وانفعال واختزال يصل الى ضفاف التجريد ، من دون أن يفقد صلته بالموضوع ( عمله الخزفي - متأمل ) .
فالمنحوتة هنا تتلوى كجسد أو تنهض دون رأس (جذع امرأة، جذع رجل وغيرهما) أو تنطوي بخصرها على نفسها ( البرد وغيرها ) . فالحركة البارزة، في معظم أعماله هي حركة جسد امرأة، منفردة أو مجتمعة تتردد بوضعيات مختلفة بين منحونة وأخرى ( نساء، عناق، الوداع وغيرها).
هكذا يضعنا أمام حركات الجسد الأنثوي ، وتجلياته وانكشافاته وإيقاعاته التي لا تنتهي، وهو حين يعمد إلى تقديم الجسد بسطوح على قدر من الخشونة والعفوية( عناق وجه وغيرهما) في الوقت الذي يذهب فيه إلى تقديمه بسطوح أقل خشونة وأكثر عقلانية ( امرأة وحمامة، رجل ومكعب، انكفاء وغيرها) وهذا يعني تحرراً من المعطيات التقنية الثابتة، ويعني أيضاً اختباراً وبحثاً عن الاحتمالات الأقوى، وترداداً لصدى الإيقاعات التي تولدها ضرباته فوق السطوح المتنوعة في حساسياتها وجمالياتها وايقاعاتها.
نحن هنا أمام أجساد نسائية تأخذنا إلى حركة تعبيرية ، تلك الحركة التي تقدم لنا جسداً، في حالات مختلفة تتمثل أحياناً فيها حركة اندفاع الصدر إلى الأمام، وحركة الرأس إلى الخلف . والحركة الانسيابية التي يجريها على سطوح منحوتاته ، شبه موحدة في أعماله ، وهذا يؤكد أنه ينزع إلى تقديم عناصر ومفردات تشكيلية تتقارب من الناحية الاسلوبية، رغم تعدد التقنيات وأساليب المعالجة، وهو يركز لإظهار المرأة منفردة في أحيان كثيرة ، ليؤكد وحشية وعزلة هذه المرأة، كأنه يريد التعبير عن مشاعر الوحدة والغربة والضياع، الموجودة في عالم اليوم اللاانساني ، مما يجعلنا نشعر أنه ليس ببعيد عن تداعيات القلق والاختناق والدمار الداخلي، الذي يلف الإنسان المعاصر، المحاصر بالحروب والموت وبمشاعر الهلع والقلق والتوتر والاضطراب .
وهو إذ يترك بعض التآكلات أو الفجوات أو التشققات ظاهرة على إنسان منحوتته، فإنه يقول لنا أن نعود إلى بدائية الجسد وخشونته الأولى ، وتبدو الأجساد أيضاً في حالاتها المختلفة أقرب إلى الابتهال والخشوع ، ثم نحن أمام أجساد أنثوية، من دون أن يعني ذلك المجاهرة بإباحية هذا الجسد، فما يهمنا هو النواحي الفنية والجمالية ، التي تتجاوز ما هو ظاهر في الجسد ، نحو العمق الآخر للتجربة، العمق الذي يؤكد الدلالات والتعابير التشكيلية ، وتجليات تجربة طويلة لنحات متمرس ومخضرم في الانتاج والعرض .
عودة الى البدايات
وفي عودة إلى أعماله التي سبقت مرحلة دراسته الأكاديميّة في دمشق، نشير إلى أنها أخذت، وعلى حد قوله، شكل تكوينات فراغيّة تلقائيّة، قام بتشكيلها من طمي السواقي ، خلال سنوات طفولته الأولى، في مدينة مصياف، وحاول من خلالها، مقاربة الواقع المحيط وتمثله، ثم اتجه خلال مرحلة الدراسة الإعداديّة والثانويّة إلى إنتاج اللوحة الزيتيّة التي نقلها، في البداية، عن كبار المصورين العالميين، ثم أخذت بالتدريج، منحىً تعبيرياً خاصاً أشبه بالموتيفات، أو الترجمات البصريّة للرؤى التي حملها الخواطر، والقصة القصيرة، والشعر المنثور، والخواطر، التي كان يكتبها وينشرها آنذاك، في بعض الصحف والمجلات السوريّة واللبنانيّة.وأقام خلال تلك المرحلة، ثلاثة معارض شخصيّة في المركز الثقافي العربي بمصياف، قبل أن يستقر في دمشق وينطلق في رحاب الانتاج والعرض ، والكتابة النقدية في الفن التشكيلي .
والشكل الإنساني الذي يجسده في منحوتاته يبقى في كل تحولاته وتنقلاته- وعلى حد قوله- ضمن حدود نسبه الحقيقية، المعبرة عن نظامية تماسك التكوين النحتي، للوصول إلى ملامح هدوء الصياغة ورصانتها وواقعيتها( منحوتاته: ابن سينا، وجه، امرأة جالسة وغيرها ) ومن ثم ينتقل من هذه الصياغة النحتية القريبة من الواقعية، رغم مظاهر التلخيص والاختصار، الى منحوتات أخرى، تظهر مفردات اللمسة العفوية والملامس الخشنة في إيقاعاتها المتحررة ( منحوتاته: وجه، عناق، جذع امرأة وغيرها ) ويتجه أكثر فأكثر نحو الاختصار وحتى التحوير، دامجاً في بعض منحوتاته الفراغية، مابين الصياغة التعبيرية والتكعيبية والتجريدية للوصول إلى تلقائية الخامة، وما تمنحه اللغة النحتية الحديثة من إيقاعات جمالية( منحوتاته: امرأة مستلقية، متأمل، نساء جالسات، تكوين وغيرها).