تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«عبد اللطيف عبد الحميد»: لاقيمـة لألـف جائــزة.. إن عجـزتَ عـن كسـب قلـوب مشـاهديك

ثقافة
الثلاثاء3-9-2019
هفاف ميهوب

مبدعٌ في كتابةِ وإخراج أعمالٍ، يشعر متابعها بأنها «نسيم الروح» وأنفاس اللحظاتِ الإنسانية.. روحه، التي أضاف من تلقائيتها وصدقها وعمق سخريتها، ما جمَّل به حياة الإنسان،

وما يحيط به وجسّده بواقعيةٍ سينمائية.‏

«عبد اللطيف عبد الحميد», المخرج السينمائي الذي بدأت شهرته تتصاعد كما «صعود المطر».. «مطر أيلول» الذي أغرق «قمران وزيتونة» بحكايا «أيام الضجر», أيام «العاشق» الذي بات «خارج التغطية» وبسبب العثرات التي حوَّلت مالديه من «رسائل شفهية»، إلى رسائل مكتوبة بالمعاناة السورية.‏

لأجلِ كل هذا قررنا الدخول إلى ذاكرته ومحاورته، وبعد أن قرأنا في دفتر طفولته:‏

•• بعد تسعة شهور قضيتها في رحم أمي، خرجت إلى الحياة.. كانت ليلة عاصفة بأمطارها ورياحها وثلوجها، وقد سبق وصولي آلامٌ ﻻ تطاق، ورحيل ثلاث ساعات إلا خمس دقائق من بداية عام، يسمونه بلغة اﻷرقام التي ﻻ يمكن تعديلها 1954 م..‏

هذا ما قالته والدتي، وبطاقتي الشخصية، لقد خرجت ﻷشارك الناس احتفاﻻتهم بحلول عام جديد، ولكنهم كانوا قد ثملوا، بينما بقيت أبكي كأنني أستنكر الخروج من دفء الرحمِ إلى برد الحياة.. لم يتوقف بكائي، ولا أوجاع وصراخ أمي: ارموه أرجوكم.. تسعة أشهر وهو يرفس في بطني، وهاهو اﻵن يقتلني بصراخه.‏

هكذا نشأت.. بعيداً عن دفءِ حضن أمي وحليبها الذي رفضته، وكأنما تأثرت لأنها طلبت أن أرمى. إنه ما خلق بيني وبينها مسافة للبرد والوجع والحيرة.. مسافة للإجابةِ على سؤالٍ طال كثيراً: «هل كانت تُحبني»؟.‏

ذات يوم مرضت أمي «السيدة الصارمة».. رحلتُ من دمشق إلى اللاذقية ﻷودِّع اﻷم اللغز.. كانت راقدة على سرير في المشفى.. اقتربت منها، ونظرتُ في عينيها.. وجدتُ حباً كثَّفتهُ خمسة وثلاثون عاماً، وأطلقته دفعة واحدة، فعلتْ ذلك ثم أغمضت إلى اﻷبد، وشعرتها تقول لي: تعلم أيها السينمائي، كيف تكثف في سينماك سنوات الحب الدفين في لحظة واحدة.‏

• إنها كلماته المسكونة بالحنين إلى «أيام الضجر».. الفيلم الذي قال عنه، ولدى سؤالنا عما إذا كان قد بدَّد به، ما يعيشه الإنسان ويترك فيه أوجع أثر.‏

•• في هذا الفيلم، لا أتناول الضجر باعتباره مشتقاً من الملل ومرادفاته، بل من «النرفزة» والضيق مما يحصل، أو يحصل من دون أن يغيِّر وكأنه لم يكن.‏

إنه «الضجر الإيجابي».. ضجرُ أربعة أطفال يعيشون الملل خلال وجودهم مع والدهم على جبهة الجولان السوري سنة 1958, ضجرٌ تضاعف لديهم بعد أن اضطروا للعودة مع أمهم إلى قريتها الساحلية، إثر التصعيد العسكري.‏

الفيلم هو دراما تشبه دراما الحياة، وفيها يبني الإنسان نفسه مع كل جزئية فيه. هذا الانسان الحقيقي الذي لا ينكسر، رغم الخسائر الفادحة التي تثقل كاهله.‏

• نعم، هي دراما الإنسان الذي كان يضع يده على قلبه، كلّما قدم له الجديد من أعماله.. الدراما التي أسكن الحبِّ فيها، ليخلّص هذا الإنسان من لسعات «طريق النحل»، وهو ما دلت عليه أقواله:‏

•• في حفلِ افتتاح عرض هذا الفيلم قلتُ: سئلتُ، عمّ يتحدث فيلمك الجديد؟. أجبت: عن الحب الوهّاج.. سئلت ثانية: كيف تعرِّف هذا النوع من الحب؟, قلت: هو الحب الذي يتوهج عندما يشرق الحبيب في عينيك قبل أن تشرق الشمس»..‏

هو فيلم يتحدث عن قصص حبٍّ تعاكس هذه الحرب، فالحب نقيضٌ ومضاد لها، وهو انعكاس لخيار البقاء في البلد.. البقاء حباً وحياة وعطاءً، نتخلص بهم من أحقاد الحرب وويلاتها وبشاعتها..‏

• إنه «العاشق» ويستمد هواهُ من سوريته.. لكن، ولأن الـ «حبّ في الحرب» جعل كلّ العشاق «خارج التغطية»، أهداهم «عزف منفرد» بصوتِ إنسانيته.‏

•• الحرب ورطة كبرى في حياة البشر، وهي في نفس الوقت مختبر متعدد الاستعمالات يكشف أمراض المجتمع والأفراد، ويكشف أيضاً مزايا البشر، وأخلاق الأفراد، ويؤلف قصص التعاطف والتآزر في المحن.‏

في «عزف منفرد» محاولة إيضاح ماقد تسببه المصادفة، من قصص تعبر عن الإنسان الذي لا تُفقده الحرب حسّه الإنساني، ولاتجبره الظروف على تجاهل الألم البشري.. فيه أيضاً، أُسرة من الأصدقاء الأخلاقيين النبلاء الموسيقيين والمغنين، يحاولون إنقاذ الحياة بالمعنى الحقيقي والمجازي. يصنعون الفرح بالغناء، والحب والموسيقا في ليالي دمشق الحزينة. يفعلون ذلك لأنهم يريدون ويسعون، لأن يرتد إليها الحب والجمال والإنسانية.‏

• هكذا هو.. يرافق كلّ من يوافق على التنقل وإياه ما بين الريف والمدينة، بحثاً عن حبٍّ كبير.. عن كلِّ مايتصدى بهِ لبشاعة حربٍ، قال عنها في جديده «الإفطار الأخير».‏

•• «الحروب لاتنتهي مع إعلانات وقف إطلاق النار، فإن إبداع معادلها الفني يستمر لزمن طويل، الحرب سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها، ويستحيل أن تنساها..‏

في هذا الفيلم نعثر مرة أخرى على حكاية الحب في الحرب، وربما الجملة التالية تلخَّص قصته «أسوأ أنواع الرحيل مَنْ رحل عنك ولم يرحل منك»، فالذين نفقدهم في الواقع، نحييهم في الذاكرة، وكأنما يصرٌون بظهورهم المتكرر في حياتنا، على الإبداع في حياة افتراضية، ونحن من مقاعد المتفرجين الهادئة المريحة، نتفرج على السيرورة المضطربة للبشر في محنة الحرب..‏

• نتوقف لدى هذا الفيلم، وهو الجديد من أعماله.. نختم برسالة تمنى أن تُقرأ جيداً، ومن قِبل من خاطبهم بأقواله.‏

•• عزيزي المخرج السينمائي المبتدئ.. أراك تفكّر كثيراً كيف ستحرّك الكاميرا في المشهد.. نصيحتي: فكّر أولاً وثانياً كيف ستحرّك مشاعر المشاهد، لا كيف تحرّك الكاميرا أمام عينيه، وعندما تتقن ذلك، سترى أن فيض المشاعر سيملي عليك كيف تحرّك هذه الكاميرا.‏

إذا كنت تصنع فيلمك من أجل الفوز بجائزة في مهرجان ما، فإنّي أؤكد لكَ بأنّك لن تحصل عليها، واعلم دائماً أن لا قيمة لألف جائزة إذا لم تكن قادراً على كسب قلب مشاهديك.. لذلك، أنصحك بأن تصنع فيلمك ببراءة.. كما تحّس وترى.. اصنعه بقلبك، وتأكّد بأنّ ما يخرج من القلب سيصل إلى القلب.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية