أنهيت إجراءات الخروج ودفعت بحقيبتي أتأمل وجوه المستقبلين ، اقترب مني شاب في عقده الرابع يرتدي سترة جلدية، وقد لحظت أنه ميّزني من بين الركاب الخارجين – أنا فؤاد آغا القلعة..
كنت قد تكلمت معه في الهاتف قبل يومين أخبره بقدومي إلى ميونيخ، في مهمّة لها علاقة بالمعماري السوري القديم (أبو للودور الدمشقي)، فأنا أجهز عنه فيلماً وثائقياً بهدف تعريف العالم بإنجازاته..اصطحبني فؤاد، المقيم في ميونيخ، إلى فندق اعتاد أن ينزل به أصدقاؤه ومعارفه ، كان فندقاً بسيطاً أنيقاً، بموظفيه وموقعه الذي لايبعد كثيراً عن قلب المدينة.. حدثنا كثيراً عن وضع الجالية العربيّة هناك، وهي تحاول أن تجد موقعاً لها بين الجاليات، وقد انعكس عليها الوضع السياسي في العالم العربي ، والعام 1998 يوشك على الأفول ونحن في منتصف تشرين الأول..
ثم التقيت به بعد ذلك في لقاء حافل مع الجالية في مقرها في ميونيخ وقد أجريت مع بعضهم لقاءات تلفزيونية..
أرسل لي فؤاد، إلى الفندق، المخرج ( جيرار سمعان) الذي يعيش في ميونيخ وله نشاطات في إخراج الأفلام الوثائقية السينمائية التلفزيونية..كان رجلاً ظريفاً، حدثني عن علاقاته الاجتماعية، وأعماله، وعرفني على بيتر المصوّر التلفزيوني الذي رافقني في جولات تصويري في ميونيخ..
كان عليّ أن أبدأ بزيارة البروفسور ( هنري تاشلر) مدير متحف تكنولوجيا النقل، الذي يعتبر أحد أهم متاحف العالم.. ضمّ في أجنحته نماذج حقيقية لتطوّر النقل في العالم من الدراجة حتى أنواع السيارات، والعربات التي تجرها الخيول.. حتى الطائرات المختلفة، ذات المراوح ثم النفاثة، ثم جناح نماذج لسفن الفضاء، وبعضها نماذج طبقت بدقة مدهشة..
وضمّ المتحف أجنحة عن القطارات وتطورها، من قطارات الفحم إلى الديزل إلى القطارات الكهربائية، وهناك جناح لتلسكوبات الفضاء، ومشاهد بانورامية من الكون.. وألحق بالمتحف قسم آخر فيه صور ونماذج عن تطور التقنيات بشكل عام.. من التقنيات الطبية إلى الهندسية الميكانيكية والكهرباء والمجاهر الضوئية والعدسات والمجاهر الالكترونية..
كان متحفاً ثرياً، مدهشاً بنماذجه الضخمة الحقيقية، أو الصغيرة أيضاً.. التقيت مع البروفسور (تاشلر) الذي أكدّ لي اهتمامه بالحضارة الاسلامية وكيف أنه يستضيف باحثين من دول عربية ومن بينها سورية من أجل إغناء البحوث التي تتحدّث عن تلك الفترة، التي يعتقد أنها ظلمت في التاريخ الأوروبي..
صوّر بيتر العديد من الأجنحة، وبتفاصيل رغبت أن يصورها.. ثم طلبنا من البروفسور (تاشلر) أن يساعدنا، في الدخول إلى متحف (ميونيخ) القديم، متحف الفن، لنصوّر بعض تماثيله الموزعة هناك..
وهكذا اتجهنا عصراً نحو ذلك المتحف الذي يقع في منطقة فسيحة، مرتفعة صعدنا درجاته، لندخل إلى جناح قاعة التماثيل..
رافقني بيتر، واستغرب كيف توقفت أمام تمثال أبو للودور الدمشقي الذي ظهر بشكله الهادىء عميق النظرة.. ثم طلبت منه تصوير تمثال (تراجان) أو (تريانوس) الامبراطور الروماني الذي أبدع (أبوللودور) في عهده كل انجازاته المعمارية..
ولد أبو للودور ( أوهبة أبوللو) ويطلق عليه العرب ( هبة الله الدمشقي) في دمشق عام (60) للميلاد، وتعرف على (تريانوس) حين كان قاضياً في الجيش الروماني، ثم ولياً للعهد قبل أن يصبح امبراطور روما..
شغف تريانوس بعبقرية ( أبو للودور) الذي كان فناناً ، معمارياً، متفوقاً وأصبح الفنان الحبيب إلى قلبه، لايكاد يفارقه.. كان كل امبراطور روماني في ذلك الحين يتبنّى أحد الشبان، ليصبح وليّاً لعهده، وقد تبنّى تراجان (هادريان) الذي كان يحب الفن، وكان يعتبر نفسه فناناً متفوقاً، وعهد (تراجان) إلى (أبو للودور) أن يعلّم (هادريان) بعضاً من فنونه.. ولم ير ( أبوللودور) في (هادريان) أي موهبة، خاصة وأن هادريان كان متعلقاً بأشكال (قباب) أشبه بالقرع.. وكان (أبوللودور) شديد السخرية منه.. وكان ذلك يضحك (تراجان)..
في زحف (تراجان) بجيوشه لتوسيع الامبراطورية، بنى له أبو للودور جسراً كبيراً على نهر الدانوب، كان أحد نماذجه الرفيعة.. وفي وسط روما، بدأ ( أبو للودور) في ( فورم تراجان) الذي ضمّ قاعات مكتبية ومحلات تجارية، وداراً للعدل، إضافة لعمود يرتفع (33) متراً نحت عليه أبو للودور، أكثر من (2000) صورة تمثل تاريخ البشرية منذ بدايات الحضارة، ثم مجيء تراجان، وعبقريته العسكرية، في مجلسه الحربي وفتوحاته، حتى يختم أبو للودور اللوحات مع عظمة عهد تراجان..
وإلى القرب من ( فورم تراجان) هناك ( البانثيون) مجمّع الأرباب بقبته البديعة، في وسطها العلوي فتحة تتيح للضوء أن يدخل وينير المكان، وقد بدت عبقرية أبو للودور في تصميمه مثار إعجاب رواد الفن المعاصر..
وسّع مرفأ ( أوستيا)، ونشر فنونه المعمارية وزخارفه ونقوشه ولوحاته في كل مكان..
وفي أثناء ترميم جامع بني أمية الكبير في دمشق اكتشف الباحث الكبير (د.عدنان البنيّ) لوحة تحت أرض الجامع كتب عليها ( أبو للودور دي داماسكوس) – أبو للودور الدمشقي- دلّ على أن هذا الفنان الدمشقي، كان له دور كبير في بناء معبد (أبوللو) تحت أرض الجامع الأموي قبل إنشائه..
بعد وفاة (تراجان) واستلام (هادريان) دفّة الامبراطورية، استدعى الامبراطور الجديد، فناننا العبقري، ليأخذ رأيه في تصميمات معمارية ابتكرها.. وأتى أبو للودور، ينظر هذه التصميمات ثم أطلق جملته الساخرة (( عد إلى قرعك ياهادريان، لن تكون فناناً)).. كانت جملة يرددها أبو للودور منذ عهد تراجان ساخراً من هادريان، ولكن هادريان الآن هو الامبراطور.. أسرّ في نفسه (( لن تستطيع الآلهة إنقاذك من بطشي الآن )) وهكذا مات أبو للودور مقتولاً.. واكتشف هادريان بعد رحيله، أن كل ملاحظاته كانت صحيحة حول ابداعاته المعمارية، فقد ظهرت بعد تنفيذها بأشكال قبيحة غير متوازنة..
قتل أبو للودور في عام (125) للميلاد وهو يتابع إنجازاته المعمارية..
وقفت انظر إلى تمثاله الذي صمّمه بنفسه وأنا أفكّر بالحسد الذي يؤثر على السطحي التافه (معتقداً بغروره) أنه الأعظم والأذكى، فيقتل المبدعين، ليطفو عالم المخبولين فوق السطح، كما هو عليه الآن حال الابداع في عالمنا..
خرجت من متحف ميونيخ، وأنا أتذكر نهاية أبو للودور، وأقول في نفسي: (( لماذا لايهتم المؤرخون العرب بمثل هؤلاء العباقرة))
وقال عنه مؤرخ لاتيني (( أبو للودور رفع عمائر في كل الأرض)) وللتأثير السوري الكبير على حضارة روما واليونان، قال المؤرخون : (( أصبح نهر العاصي السوري يصب في نهري التيبر والدانوب)) تأكيداً على دور السوريين في إرساء الحضارة هناك..
تجوّلت في ميونيخ وأنا أتذكر ( أبو للودور الدمشقي) الذي اعتبره (تاشلر) أحد عمالقة العمارة عبر العصور..
انتقلت بعد أربعة أيام إلى فرانكفورت، وقابلت (فوات سازكين) في متحفه التاريخي المتميّز عن العلوم الاسلامية.. وكان لذلك حديث آخر..
talebomran@hotmail.com