تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


من بواكير الأدب النقدي في سورية...محمـــد روحــــي الفيصــــل بـــين النقـــــد والترجمــــــة

ثقافة
الاثنين22-6-2009
ولد محمد روحي الفيصل في حمص عام 1912 لأسرة متوسطة تهتم بالعلم والثقافة وتلقى دراسته في مدارس المدينة إلى أن أنهاها،

فسافر إلى بيروت لدراسة الكيمياء والصيدلة في جامعة القديس يوسف، ولكنه لم يتخرج بشهادتها لأسباب مادية، فشق طريقه معتمداً على نفسه وانخرط في سلك الوظيفة فعمل نحو خمس عشرة سنة مديراً للدعاية والأنباء في مدينة ابن الوليد ومارس على فترات متقطعة العمل الصيدلاني وكيلاً لبعض شركات الأدوية كما قام بتدريس اللغة الفرنسية والعلوم في سورية والمملكة العربية السعودية، وقد عاش الفيصل جانباً من حياته في دمشق وقضى في مسقط رأسه عام 1969، إثر مرض عضال دام خمس سنوات تقريباً.‏

سأتحدث في هذه المطالعة عن محمد روحي الفيصل ناقداً، ثم مترجماً، وإذا كانت صفات الناقد الأصيل المتمكن تقوم على الثقافة الشاملة المتنوعة والحس النقدي الذكي واللغة الاصطلاحية الدقيقة والتجرد الحكمي النزيه فإن ناقدنا في مرحلة مبكرة، قد تسلح بملامح وافية من هذه الأسلحة ومضى في طريق الأدب النقدي أو النقد الأدبي ملتفتاً إلى إعطاء الأثر المنقود حقه من الجودة أو الضعف، متجهاً سمت الذوق الجمالي والأداء الفني والبعد عن الإغراب والتقعر في حكم القيمة الذي يطلقه، فكان بحق ناقداً شعرياً إيجابياً بناءً، يدرك مقومات الشعر الأساسية ويزن القصيد بموازين عادلة قدر المستطاع والملكة النقدية لديه وينثر هنا وهناك لفتات ذكية ولقطات بارعة تبرهن أول ما تبرهن على انفعال تأثري حار، وملاحظة وامضة دقيقة وتذوق طبعي سليم بالأثر الأدبي المنقود.‏

وكان الفيصل أديباً مغزار الإنتاج ومثقفاً موفور الثقافة، ظل يكتب المقالة النقدية ثلاثين عاماً بقلم لا يعرف الكهولة وتفكير فيه من العمق والتمحيص بقدر ما فيه من السهولة والانسياب، وأسلوب يترقرق كما تترقرق الفكرة المطواع في الذهن الصافي وكان يرفد ثقافته بفيض من القراءات الملونة في السياسة والفلسفة والطب والتاريخ والدين ويطل على التراث العربي بقدر إطلاله على الثقافة الغربية، ويوم كانت «رسالة» أحمد حسن الزيات و «الكاتب المصري» طه حسين في أوج انتشارهما وذيوعهما كان الفيصل يتصدر صفحاتها الأولى ويعد ركناً من أركانهما، وعندما كان للأدب صيت ومجد وصحافة راقية وقراء متلهفون وكتاب مجيدون كان محمد روحي الفيصل يخوض غمار معارك نقدية لاهبة في كل من بيروت والقاهرة ويثبت فيهما عمقاً وجدارة وأحقية وذكاء وثقة وأهلية، لهذا قدره عدد من نقاد مصر وأدبائها فعقدوا المقالات في التحدث عن آرائه النقدية ومناقشتها وعلى رأسهم الزيات الذي وصفه بأنه من أصحاب الأساليب في كتابه «دفاع عن البلاغة» وعباس محمود العقاد في توقف عنده يبحث في مجلة «الرسالة» وعبد اللطيف السحرتي في كتابه «نظرات في الشعر العربي المعاصر» وأنور المعداوي في كتابه «نماذج فنية في الأدب».‏

وقصة إفحام الفيصل للدكتور طه حسين معروفة، فقد كتب الأخير مقالاً بعنوان «نزيل حمص» تحدث فيه عن (وحشي) قاتل حمزة عم الرسول الأعظم ودرس نفسية الندم عنده واستخلص في النهاية أنه لجأ إلى الخمر لينسى ما أقدم عليه من فعل بشع فرد عليه أديبنا رداً مفعماً تحليلياً تناول جوانب القضية المعالجة من مختلف الجهات وطلب من عميد الأدب العربي أن يذكر المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في الصاق تهمة السكر بوحشي ولكن الدكتور صمت لأنه استنتج استنتاجاً ولم يتكئ على مصدرية أو مرجعية تاريخية موثقة.‏

لو أتيح لمحمد روحي الفيصل أن ينشر - أثناء حياته - في كتب، جميع ما خطه يراعه من نثر فني مبدع في شتى الموضوعات والفنون الأدبية لطبع مجلدات، لكن كتبه المطبوعة وهو حي قليلة أهمها كتاب صغير عنوانه: «تحت المبضع» وقد صدر عام 1949 وهو عبارة عن دراسة تحليلية نقدية لشعر عمر أبو ريشة وبدوي الجبل وشفيق جبري ومحمد البزم ومحمد مهدي الجواهري بمناسبة مشاركتهم بقصائدهم في الذكرى الألفية لولادة حكيم المعرة أبي العلاء، وقد أثار هذا الكتاب يوم نشر ضجة كبرى في الأوساط الأدبية لما يتمتع به من آراء نقدية جريئة تشكل في مجملها مذهب أديبنا النقدي في نقد الشعر، هذا المذهب الذي يجمع بين طرف من موروثنا النقدي المأثور وطرف من نظريات النقد الفرنسي المعاصر في تلك المرحلة وطرف ثالث من آراء الناقد التذوقية أو التأثرية نفسها.‏

وفي هذا الكتاب يحدد الفيصل مهمة الناقد فيقول: «أن يستقرئ ويحلل ويجوس خلال البيان مؤثراً ومتأثراً ويقرأ فاعلاً ومنفعلاً ويجمع الذي تشابه ويفرز الذي تشابك ويصور مكان الضعف ومكان القوة ويقفز فوق الدمن ويقف عند الجميل ثم لا يحكم إلا باحتياط وحذر ولا يقرر إلا باعتدال ونصفه، لايجمجم ولا يبالغ ولا يجوز».‏

ثم عندما يصل ناقدنا إلى النقد التطبيقي لشعر الشعراء السابق ذكرهم يتريث أمام نصوصهم الشعرية في دراسته للألفاظ والمعاني والأفكار والصور والأخيلة بغية نقد شعر المهرجان المذكور بعد أن يطرح ثلاثة أسئلة وهي:‏

1- هل صور الشعراء أبا العلاء المعري في حقيقته أم كما هو في نفوسهم؟‏

2- مامدى التوفيق في ذلك؟‏

3- من أجاد أكثر من صاحبه؟‏

ثم يأخذ في نقد قصيدة كل شاعر على حدة نقداً يعتبر ضمن إطاره الزمني ومرحلته التاريخية متقدماً وناضجاً وإن كان أحياناً يتسم بالقسوة والجرأة والنزعة الشخصية الفوقية كما في نقده مثلاً لقصيدة بدوي الجبل حين يقول له «فو الله لولا أنك يا بدوي شاعر... وشاعر له حظ من خيال وشاعر يجري في نظمه على طريقة العرب ولا يجري معه لأسمعتك الآن كلاماً، وهززت فوق ظهرك نقداً، كنت لاشك حافظها لي واحدة أبد الدهر مادمت ودمت على قيد الحياة».‏

ثم يذكر الفيصل الجبل بأنه كان قد نبهه عام 1939 إلى خطر الإبهام والتعميم في قصيدته عن مصرع الملك غازي، فما دام لم يراع ولم يسمع إلى النقد إذن «فليعلم أني قد نفضت يدي من إصلاحه وتقويمه، وأني إنما أكتب الآن لغيره من الشعراء».‏

والطريف أن قصيدة البدوي في غازي قد نشرت في ديوان الشاعر الصادر عام 1978 عن دار العودة ص (209) بعنوان (مصرع الشمس) في ثلاثة وستين بيتاً وقد حذف البدوي بعض الأبيات التي عابها عليه محمد روحي الفيصل في نقده وعددها عشرة، اقتناعاً بصحة وجهة نظر الناقد وأحقيته في الحكم عليها بالضعف أو فراغ المعنى أو تكرار الصورة المستهلكة أو مجانبة الواقع، إلى ما هنالك من أحكام صائبة.‏

في مجال نقد الشعر ترك الفيصل محاضرة قيمة تحت عنوان: «هل كان المتنبي شاعراً» يوضح فيها عناصر الشعر ومقوماته ومفاهيمه ومقاييسه التي يؤمن بها، ثم يطبق هذه الأسس والمرتكزات النظرية على شعر المتنبي ويخرج في نهاية المحاضرة بهذا الرأي الجريء الجديد، أكاد أقول: «إن المتنبي ليس شاعراً».‏

ويحكم الناقد نبيل سليمان في كتاب (النقد الأدبي في سورية ج1) على الفيصل مجموعة من الأحكام في سياق ما يسمى نقد النقد.. فيرى فيه أنه عني بالرومانتيكية وبالشكلية عناية كبيرة، ويأخذ عليه وعلى حفنة من النقاد، مجايلة له علة عدم دقة المصطلحات واللغة النقدية واهتزاز الأدوات، والتناقض المذهبي في النقد ما يؤدي به إلى اختلاط الأمشاط وتعدد المشارب، فالفيصل الذي اهتم بالطابع الرومانسي في الأدب هو نفسه الذي سبق أن دعا الأدباء إلى الالتزام بآلام الناس زمن الحرب وهو الذي حرص على التسهيل في الإيصال.‏

وإذا كانت الترجمة الأمينة المقروءة تحتاج من المترجم إتقاناً للغتين المترجم عنها والمترجم إليها وسيراً لأعماقها وتواصلاً من سياقاتهما التعبيرية وغوصاً على غريبهما وتمثلاً للأثر المترجم، فإن محمد روحي الفيصل هو رائد من ترجم مبكراً من الفرنسية إلى العربية ببيان مشرق وحرارة سخية.. وقارئ كتبه المترجمة عن هذه اللغة يشعر حين قراءتها أنه أمام أثر مخلوق لا أثر منقول ويحس أن اللغتين العربية والفرنسية قد أرختا زمامها لهذا الأديب، لذا فهو لا يقع على جملة غامضة أو تعبير ملتو أو فكرة مبهمة أو لفظة متسهجنة كما يحدث لنا ونحن نقرأ بعض ترجمات هذه الأيام التجارية الاستهلاكية التي تفسد النص المترجم وتذكر بقوله الإيطاليين في هذا الباب: احذر أيها المترجم .. أنت تخون الكاتب.‏

وفيما يلي نقدم نبذة تعريفية عن أهم كتب الفيصل المترجمة المطبوعة والمخطوطة على شكل كراسات:‏

1- كتاب «من النقد الفلسفي» وقد طبع عام 1944 ويحوي مقالة نقدية لبول فاليري الشاعر الفرنسي تشرح نظريته المعروفة في تشبيه النثر بالمشي والشعر بالرقص، ومقالة أخرى لغوستاف لانسون يركز فيها على أهمية العاطفة في الأدب ومقالة ثالثة تتحدث عن العلاقة بين الشعر والحياة.‏

2- كتاب «مذهب في الشعر» وقد طبع عام 1949 وهو عبارة عن ملخص لفصل من كتاب بعنوان « المدخل إلى الأدب الفرنسي» لتييري مولييني نشره الفيصل تحت العنوان المذكور في أول هذه الفقرة.. ويتضمن الكتاب تنظيراً لثلاثة أنواع من مختارات النقاد الشعرية، وأولهم الناقد الممتاز الذي يدلل في اختيار الشعر على الإرادة الفنية المتركزة في نفسه.. وثانيهم الناقد المحلل الذي يختار الشعر ليدلل على الإرادة الفنية للشاعر وليس له شخصياً، وثالثهم الذي يختار الشعر دون تعليق ولا تحليل.‏

3- مسرحية «بيروليوز - لشارل ميري» - مخطوط- وتدور حول حياة الموسيقار هكتوبيرليوز الصاخبة: ذهاب مع الحب إلى حد الجنون وولع بالمرأة إلى درجة التعدد، وإتراع بالألم حتى اليأس، وجهاد لا يهدأ في سبيل المال وظفر بالمجد لا يقف عند الكبرياء.‏

4- كتاب «حديقة أبيقور» لأناتول فرانس - مخطوط- وهو عبارة عن مجموعة تأملات في الأدب والفن والحياة تمتد تاريخياً من العصر اليوناني حتى العصر الحديث على شكل سياحة فكرية مؤلفة من ست وستين فقرة صيغت برؤية ذاتية وأسلوب رومانسي يتراوح بين الاعجاب والسخرية والنقد والوصف.‏

لقد عرف محمد روحي الفيصل بديباجته العربية الأصيلة وبيانه المشرق الجميل تأليفاً وترجمة وبمقدرته على التأثير في السامعين خلال إلقاء الأحاديث الإذاعية ومواجهة الجمهور في المحاضرات والندوات فكان لحديثه طلاوة، ولجلسته حلاوة، وكان فوق ذلك كله صاحب نكتة رشيقة وإشارات بأصابعه وعينيه معبرة، وولع صاحبه بالنرجيلة طوال حياته.‏

وعلى كل حال ففي مقدور الدارس له تناوله من جوانب عدة أهمها: النقد الأدبي التنظيري والتطبيقي - الترجمة والتلخيص - القصة القصيرة والطويلة - المقالة الأدبية والسياسية، غير أن شهرته في ميدان النقد الأدبي طغت على فعالياته الأدبية الأخرى ووظفتها لمصلحتها.. وتبقى هناك ميزة خاصة من ميزاته أنه كناقد وقارئ كان يفرح للنبتة الجديدة ويشجع الموهبة المأمولة ويطالع للناشئين كما يقرأ وينقد كبار الأدباء والكتاب بالاهتمام والإخلاص نفسه.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية