ولقد شهد القرن العشرون اتجاهات عديدة لابتكار مضامين جديدة للتعبير عن الإنسان ومشكلاته.
وابتكر المسرحيون أشكالاً عديدة للتواصل مع المتلقي بعيداً عن الإصغاء فقط وإنما جعل المتلقي مشاركاً.. فكان أحد أشكال التعبير المبتكرة.. (المسرح البيئي) الذي أشاعه (ريتشارد ششنر- 1934) إذ اعتبر: «أن المتفرجين هم صانعو مشهد ومراقبو مشهد، كما في مشهد الشارع خلال الحياة اليومية» واستفاد من هذا المسرح عدد كبير حول العالم فقدموا أساليب جديدة ومثيرة. فجعل المخرجون من أعمالهم موضوعات للتأمل.. فقد أخذت عروضهم طابعاً جمالياً فريداً سواء عن طريق الحواس أم داخل الذهن فقط.
فالتقنيات التي استخدمها مخرجو المسرح البيئي وضعت المتلقي داخل بيئة العرض محفزة ذهنه وشعوره على تأملها وإمعان التفكير فيها وبالتالي أصبح منقاداً في الدخول إلى بنيتها.
نبع اهتمام المسرحيين في البيئة لكونها تمثل العوامل الخارجية التي يستجيب لها الفرد والمجتمع كعوامل الجغرافيا والمناخ /نبات- حرارة.../ وكذلك تشابه العوامل الثقافية المؤثرة بالفرد والمجتمع وتشكلها وتطبعها بطابع معين كما تمثل البيئة المجال الذي تحدث فيه الإثارة والتفاعل وما يحيط بالإنسان من طبيعة ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية وعلاقات شخصية وهي تؤثر بالكائن من حيث الحركة والنشاط.
واعتبر المخرج الأميركي (ريتشارد ششنر) البيئة بأنها المحيط الدائم والمحتوى والأعشاش وهو المشاركة والفاعلية في الأنظمة الحياتية ويرى أن البيئة حيث بدأت الحياة وقد تأثرت بالكائنات الحية وبالأحداث الطبيعية، مثل (هيجان البراكين والبقع الشمسية والعواصف) وعد المخرج أن العلاقة بين ما هو طبيعي وبشري أمر معقد فمن الممكن ألا يؤثر الإنسان في الأحداث الطبيعية لكن الفعل الإنساني يؤثر في الطقس (الجو) وعنف وطأته.
عالج المسرح البيئي أزمات الإنسان المعاصر بما أنتجته من أحداث سياسية وما تركته الحروب من دمار على أوضاع الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وربط المسرح البيئي بين المسرح والحياة باعتبار أن ما يحدث في المسرح هو رديف للحياة.
أزاح مخرجو المسرح البيئي النص الدرامي الجاهر واعتمدوا على توليفة سمعية بصرية وأعطوا عروضهم صفة (كونية) باستخدام لغات عالمية واستعاض بعضهم عن اللغة.. بلغة الأصوات واشتغلوا على إذابة الطابع المحلي للثقافة الشعبية من أجل إعطائها صفة كونية.
ظهرت بوادر المسرح المحلي عام 1970 على يد ششنر وطوره من خلال فكرة اقتبسها مفادها أن (الكثيرين منا يفهمون أنه مازال ضرورياً أن ندع المسرح يتنفس فمستقبل المسرح ليس في المساحات المغلقة).
واعتبر ششنر أيضاً أن بيئة العرض ليس فضاء فقط بل فاعلية اللاعبين في أنظمة إرسال معقدة تأخذ مكانها من خلال فضاءات ساكنة.. فالمسرح البيئي حيثما يكون الفعل في غرفة الأزياء والمكياج، المشاهد في الردهة في مكتب الإدارة وحتى التواليت في وسائط النقل التي تجلب المشاهد إلى العرض المسرحي وحتى الكافيتريا جميعها تشكل بيئة العرض.
المسرح البيئي يتشابه وأسلوب السينما من خلال تغييرات المشاهد القصيرة وتقاطع الحبكة الرئيسية بحبكة ثانوية فالسلسلة المتصلة من المشاهد التي تشبه تسلسل أحداث الشريط السينمائي تتخلله فترات استراحة وموسيقا بين جزء وآخر هو ما يقوي تأثيرها.
وبلعب الخيال دوراً أساسياً في تجسيد الصورة مسرحياً لأن الخيال قوة خفية وقوة كونية.
وظف ششنر دراسته (للانتروبولوجيا) مستفيداً من الثقافات والحياة اليومية وتوظيفها في العرض وتوظيف الطقوس عند الناس في غينيا مثلاً.. واستفاد من التجارب الشخصية من الشعوب عن طريق دراسة هذه الثقافات وهو ما تحقق في (باخوسيات) و (فيلوكتيس) لـ... سوفوكليس و (أوديب) لـ سنكا ومن الرسالة الهندية (نايتا ساسترا) ودراما النو (اليابانية)..
وكان اعتماد ششنر على كثير من التقنيات تلك الطقوس نابعاً من تحويل خشبة المسرح إلى طقس هو لمجرد رغبته في تفعيل العرض المسرحي واستخدام الأحداث لتغيير الناس، وعزل المشاركين عن بيئتهم السابقة من خلال نزع الحواس وتغيير التوجه في طبيعتهم وإدماجهم في بيئة جديدة بشكل مادي.
مقارباً في ذلك بالطقس الديني بالمسارح القديمة واعتبار عناصر الطقس الديني مسلمات وتبقى مقدسة وهذا الغموض المطلوب مرتبط بالتلقي من قبل المشاهد الذي اعتبر هدفاً لمخرج المسرح البيئي استناداً إلى أن الفن هو أداة (تقريب) الأشياء وأداة الشكل الذي أصبح صعباً أي إنه الأداة التي تزيد من صعوبة وإطالة الإدراك لأن عملية الإدراك في الفن غاية في ذاتها ولابد من إطالتها.
يعتمد عمل المخرج المسرحي البيئي على العمل الجماعي بدءاً من إعداد النص إلى تقديم العرض واعتمدت تقنية الأداء التمثيلي على المرونة العالية للجسد والتنغيم في طبقات الصوت والارتجال بتداعيات الممثل كل ذلك من أجل خلق علاقة تواصلية مع المتلقي وبهدف ادخال المتلقي في تجربة طقسية موحدة وتوريطه بشكل جمعي يتوحد فيها الجميع بلا تمييز لتحويل العرض المسرحي إلى حدث جماعي داخل بيئة العرض.