فهي تنطلق من اعتراف أن الضفة وقطاع غزة أراضٍ محتلة، وأن من حق الفلسطينيين إقامة دولتهم.
الأهم من الخطة الأميركية أو غيرها من المشاريع هو البحث في كيفية الحد من الانحياز الأميركي لإسرائيل، فقد وصلت العلاقة بين الطرفين إلى مستوى من العمق لايجوز التطلع إلى تغيير جذري فيها إلاّ في مجال الأوهام، ولكن يظل ممكناً، في الواقع المعاش، التأثير على مدى الانحياز الأميركي لإسرائيل إذا أصر الفلسطينيون، ومن ورائهم العرب على حقوقهم وأداروا المفاوضات بحنكة- وعناية مختارة.
تفيد مراجعة مسار العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، منذ أن اضطلعت واشنطن بدور الوساطة في أزمة الشرق الأوسط، إلى أن الخط البياني الصاعد لتلك العلاقات لم يتأثر بقضية واحدة ربما على وجه الحصر، وهي قضية الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإذا ركز التحرك الفلسطيني المدعوم عربياً، في الفترة المقبلة على هذه القضية ربما يمكن ممارسة تأثيره على مدى الانحياز الأميركي لإسرائيل، فضلاً عن تحريك الموقف الأوروبي الذي بدا أكثر اهتماماً في الأيام الأخيرة بقضية الاستيطان مقارنة بالفلسطينيين والعرب عموماً، فما زال الاهتمام الفلسطيني بإثارة قضية الاستيطان، سواء بوصفها قضية مهمة في حد ذاتها أم باعتبارها مدخلاً فعالاً للتأثير على سياسات الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، أقل مما هو مفترض وخصوصاً في ظل تنامي إدراك خطورة هذه القضية.
ومن أبرز الدلائل على تنامي هذا الإدراك الوثيقة التي أعدتها دائرة المفاوضات الفلسطينية، والتي خلصت فيها إلى أن سياسة الاستيطان تقود إلى فشل تطبيق أي حل يقوم على أساس التعايش بين دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وجاءت هذه الخلاصة نتيجة عرض موثق بالأرقام والخرائط لأوضاع المستوطنات الراهنة، أو المستعمرات الكولونيالية كما تسميها الوثيقة، وخطط توسعتها والطرق التي تشق لتصل هذه المستوطنات بالقدس وبالأراضي التي تتم مصادرتها خلال العملية الجارية الآن لبناء «الجدار الفاصل» الذي يبلغ طوله ثلاثة أضعاف طول جدار برلين، وفي ظل هذا الوضع، يصبح مستحيلاً إيجاد تواصل جغرافي بأي حال بين ما يبقى من الأراضي الفلسطينية، ولايمكن بطبيعة الحال إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة دون هذا التواصل، لأنها ستصبح مجرد «كانتونات» معزولة لايربطها رابط ومضطرة للخضوع لهيمنة «إسرائيل» والاعتماد عليها في كل شيء.
قد لايكون في إمكان السلطة الفلسطينية أن تؤثر في الموقف الأميركي إلا بالتركيز على هذه القضية التي تجد آذاناً تسمعها في واشنطن، وهي ليست قضية ثانوية أو معزولة عن الأزمة المتفاقمة في الأراضي المحتلة، بل هي في القلب منها، فضلاً عن ثبوت استحالة إيجاد حل نهائي يقوم على دولتين بسبب سياسة الاستيطان، وأصبح قطاع يعتد به من المستوطنين عاملاً أساسياً وراء تصعيد العنف في الأسابيع الأخيرة، فقد ازداد الميل العدواني في صفوف المستوطنين، ما أدى إلى حوادث لاسابق لها منذ عام1967، ضد المواطنين العرب، ولاسيما بعد تصاعد استفزازات سكان المستوطنات وانتهاكاتهم اليومية، وقيامهم بقطع المياه والكهرباء عن القرى العربية المحيطة وتكرار أعمال التخريب.
وعندما حل موسم جني الزيتون في الضفة الغربية، قام المستوطنون بحملات منظمة ضد الفلسطينيين لمنعهم من قطفه، ولم يتورعوا حتى عندما حاولت مجموعة من «أنصار السلام» من اليهود والأجانب مناصرة الفلاحين الفلسطينيين في قطف ثمار الزيتون في المنطقة مابين نابلس وسلفيت.
وهكذا يتوفر ظرف موضوعي يتيح الدق على قضية الاستيطان وإعطائها أولوية عن المحادثات التي يجريها مسؤولون فلسطينيون مع الولايات المتحدة سواء في إطار خطة «خريطة الطريق»، أم غيرها، فهذه هي القضية الوحيدة، من بين قضايا الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي التي أحدثت خلافات بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» كان أهمها في عهد إدارة بوش الأب (1989-1993) فقد عارضت الولايات المتحدة، منذ حزيران 1967، أي خطوات تتخذ من جانب واحد لتغيير الأوضاع القائمة على الأراضي المحتلة، وبصفة خاصة سياسة الاستيطان باعتبارها عقبة في طريق تحقيق السلام، ولكن ضعف الاهتمام الفلسطيني والعربي عموماً أتاح للحكومات الإسرائيلية المتتالية أن تفلت من تبعات الخلاف مع واشنطن في هذا المجال.
ولم تنجح حكومة اسحاق شامير حينئذٍ في وضع حد لهذا الخلاف، الذي كان قد بدأ قبل أكثر من عامين على تولي بوش الأب الرئاسة، عندما انتقدت إدارة رونالد ريغان سياسة الاستيطان في تشرين الأول 1986، ووصفتها أنها تغلق نافذة السلام التي تريد واشنطن فتحها.
لكن الخلاف الأهم كان في أن إدارة بوش الأب الذي وجّه إلى شامير أقوى رسالة خرجت من أميركا إلى «إسرائيل» منذ رسالة ايزنهاور إلى ديفيد بن غوريون التي هدده فيها باتخاذ إجراءات ضد «إسرائيل» إذا لم تنسحب من سيناء التي احتلتها خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ركزت رسالة بوش على قضية الاستيطان رداً على إصرار شامير مواصلة بناء المستوطنات، وأكد بوش في تلك الرسالة ضرورة وقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقد أثار موقف بوش جدلاً واسعاً في حينه حول مستقبل العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، حيث وصل الأمر إلى حد أن أعلن شامير في 18 تشرين الأول 1989 أن «إسرائيل مقبلة على مواجهة مع الولايات المتحدة، وأنها ستتمسك بمواقفها إلى ما لانهاية حتى إذا حدثت هذه المواجهة»، وها هو الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما يثير القضية نفسها، طالباً من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وجوب وقف بناء المستوطنات وذلك المضي قدماً نحو السلام.
وهكذا كانت قضية الاستيطان هي التي أثارت أهم خلاف في تاريخ العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، وهو خلاف كان مرشحاً للتصاعد إذا وجد من يعمل عليه ويسعى إلى استثماره وتوسيعه، فحري بالفلسطينيين والدول العربية التركيز على هذه القضية ورفعها إلى صدارة جدول الأعمال في الاتصالات والمحادثات مع الولايات المتحدة.
ولايزال في الإمكان الانطلاق منها في عمل فلسطيني- عربي منظم ومدروس سعياً إلى فك الارتباط الأميركي- الإسرائيلي الذي يقف عقبة جوهرية أمام أي تحرك سلمي سواء على أساس خطة «خريطة الطريق» أم أي خطة أخرى.