وكشفت في الوقت نفسه العديد من التساؤلات حول حجم التباين في صفوف الأوروبيين وأحزابهم من الاتحاد وماهية مستقبله.
يمثل البرلمان الأوروبي الهيئة التشريعية الأولى في الاتحاد الأوروبي، المعنية بمراقبة كيفية التعامل مع التوجهات والقرارات الاتحادية، وخاصة في الهيئات التنفيذية: (المفوضية الأوروبية «الحكومة» لجنة الشؤون الخارجية، الأمن والسياسة الأوروبية ... الخ) كذلك تغيير أو تعديل تركيبة هذه الهيئات وتشكل تركيبة البرلمان الاتحادي الأوروبي وتحالفات كتله الحزبية السياسية وطبيعة برامجها العنصر الرئيسي في تحديد توجهاته وكيفية تعاطيه مع مهماته الاتحادية الأوروبية والدولية أيضاً.
وبسبب التباينات الواسعة في صفوف الأحزاب الأوروبية وما تمثله شعبياً، وتالياً انتخابياً، حول الاتحاد ودوره فإن إفرازات العملية الانتخابية تعكس نفسها على تركيبة البرلمان وطبيعة السلطة التشريعية وتوجهها، وفي حدود ليست قليلة قراراته أيضاً.
يتشكل البرلمان الأوروبي الاتحادي من 736 نائباً يمثلون مجموع الدول الأوروبية الـ 27 المنضوية في إطار الاتحاد الأوروبي، وتتمثل كل دولة فيه وفقاً لعدد سكانها وتالياً نسبتها البرلمانية الاتحادية (وفقاً للدستور الأوروبي ولاحقاً المعاهدة الدستورية المقرة في كانون الأول عام 2007) ورغم أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2004 شهدت نسبة متدنية من التصويت والمشاركة الانتخابية التي لم تتجاوز 46 بالمئة، فإن انتخابات عام 2009 سجلت تدنياً أكبر في حجم المشاركة الإجمالية لم تتجاوز 43.5 بالمئة من مجموع الناخبين الأوروبيين البالغ عددهم 388 مليون ناخب (سجلت نسبة المشاركة 18 بالمئة في ايطاليا و36.5 بالمئة في فرنسا مثلاً) وإذ أظهرت عملية الانتخابات التي استمرت أربعة أيام (من 4 إلى 7 حزيران الجاري) مقاطعة شعبية ولا مبالاة لها دلالاتها المهمة، فإنها أفرزت نتائج غير مرضية للاتحادين الأوروبيين وذلك أن مقاطعة الانتخابات تصب في مصلحة الأحزاب والقوى الرافضة لمشروع الاتحاد الأوروبي، ورغم محافظة قوى يمين الوسط الحاكمة في نحو 20 دولة من دول الاتحاد على موقعها الأول في البرلمان الاتحادي وتالياً حلول يسار الوسط (الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية) في المرتبة الثانية - يدافع الاتجاهان عن مشروع الاتحاد الأوروبي وديمومته وتطوير هيكليته - فإنه ينظر باهتمام إلى التقدم الذي أحرزته قوى اليمين واليمين المتطرف التي تنظر إلى الاتحاد بوصفه إطاراً قارياً يذوب الهوية الوطنية للدول الاتحادية وتجاهلها لاحقاً (الهوية الوطنية - العملة الوطنية - النشيد الوطني.... إلخ) إذ تضاف مواقف هذه القوى إلى توجهات وسياسات قوى اليسار:(الأحزاب العمالية والتقدمية والشيوعية) التي حافظت نسبياً على مواقعها الانتخابية مؤخراً وتنظر إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه اتحاداً للاحتكارات والشركات فوق الوطنية الوطنية والقارية على حساب شغيلة أوروبا وكادحيها.
هذه التباينات على أهميتها فضلاً عن المقاطعة الشعبية للانتخابات البرلمانية الاتحادية وما تمثله من تنامي شعبي أوروبي للاتجاهات التي تضع ملاحظات جوهرية على الاتحاد ودوره الاقتصادي - الاجتماعي الداخلي، وعلى سياسته الخارجية تضاف إلى الأزمة المالية العالمية التي عصفت أيضاً بالاتحاد الأوروبي (القطب الاقتصادي العالمي) وعكست نفسها على القطاعات (الاقتصادية - الانتاجية وعلى مداخيل الأوروبيين ومستوى معيشتهم .. إلخ).
ورغم تقديم الحكومات الأوروبية المكونة من قوى يمين الوسط ويسار الوسط مشروع المعاهدة الدستورية، وإقرارها في قمة لشبونة، بوصفها بديلاً لمشروع دستور الاتحاد الموحد الذي لم توافق عليه قمم الاتحاد الأوروبي الأخيرة، في محاولة منها لضمان تأييد الدول الأوروبية لها شعبياً وبرلمانياً، التي لا تنص على نزع العديد من عناصر السيادة الوطنية للدول الأوروبية.
فضلاً عن إقرار العديد من التعديلات الهيكلية الأخرى على هيئات الاتحاد ومؤسساته بوصفها نتاج حراك رسمي (برلماني وحكومي) وشعبي، لا بل استجابة لهما، وتالياً تقديمها معاهدة دستورية اتحادية «مبسطة» فإن نتائج الانتخابات البرلمانية الاتحادية (حجم المشاركة المتدني، فوز قوى اليمين واليمين المتطرف، وحفاظ قوى اليسار على مواقعها، وتراجع قوى يمين الوسط ويسار الوسط....إلخ) أظهرت مرة أخرى العديد من الملاحظات الشعبية - الحزبية وأيضاً الانتخابية حول الاتحاد والموقف منه.
هذا في الوقت الذي تراجعت فيه نسبة الدعم الشعبي للقوى المؤيدة للاتحاد الأوروبي من جهة وعاقب الناخبون هذه الأحزاب في بلدانهم من جهة أخرى.
ولسنا هنا بصدد مناقشة نتائج الانتخابات في كل بلد أوروبي على حدة - يحتاج إلى بحث منفصل - على أهميتها (مُني حزب العمال البريطاني بزعامة رئيس الوزراء غوردن براون بهزيمة قاسية وحل في المركز الثالث بريطانياً للمرة الأولى) بل بصدد إظهار أهمية هذه الانتخابات البرلمانية الاتحادية، بوصفها محطة تقييم شعبي وانتخابي لإنجازات الاتحاد الأوروبي وخاصة على الصعيد الاقتصادي (شهد الاتحاد الأوروبي إرتفاعاً كبيراً في الأسعار، وفي اتساع دائرة البطالة والركود الاقتصادي...إلخ) وعلى الصعيد الاجتماعي (تراجع حجم الضمانات الاجتماعية وشموليتها) وبالتالي حجم الإفادة الشعبية الأوروبية من الاتحاد ومؤسساته مقارنة بأوضاع العديد من الدول الأوروبية قبيل تأسيس الاتحاد وتالياً واقع الاتحاد الأوروبي الداخلي الاقتصادي - الاجتماعي وفوائده المباشرة شعبياً في كل بلد على حدة وعلى مستوى القارة ككل وهي المسألة الراهنة والأهم للمواطن الأوروبي.
فضلاً عن تواضع الدور الأوروبي على صعيد السياسة الخارجية وحجم هذا الدور وتأثيره عالمياً في سياق التعاطي مع الإشكاليات وبؤر التوتر التي يعانيها عالمنا، والمشكلات الدولية وآخرها الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها على أوروبا (دولاً واتحاداً).
عوامل كثيرة أوصلت إلى نتائج هذه الانتخابات البرلمانية الاتحادية الأوروبية، يفترض بالأوروبيين -حكومات وأحزاباً وقوى- مراجعتها وفي الصدارة الاتحاد الأوروبي واقعه ومستقبله الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضاً.
باحث في الشؤون الدولية
batal-m@scs-net.org