ثمّ تعرونا المفاجأة بعد حين من الزمن، نشاهد هؤلاء قد نجوا من تلك الحفرة العميقة التي كانوا على وشك السقوط فيها، لا بل على العكس تماماً تمكّنوا من التسلّق مرة أخرى وها هم اليوم يعززون وضعهم الوظيفيّ، ويحظون بقرب صاحب النهي والأمر محتلّين مساحات جديدة من دعمه وعطفه عليهم.
كيف حدث الأمر وغيّرت العربة وجهة سيرها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، أو من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، وكيف انقلب الغضب رضا والسخط صفحاً؟
أسئلة تترك العديد من إشارات الاستفهام التي لا نستطيع التعامل معها إلاّ بجرعات مضاعفة من الحيرة.
ولأننا لا نريد الاتكال على الغيب النائي في اكتشاف مغارات هذه الألغاز نقوم بعملية عصف ذهنيّ، في محاولة للعثور على الإجابات التي نركن إليها، ونراها قادرة على انتشالنا من دوّامة الحيرة والاضطراب.
نظنّ مثلاً أنّ هذا الذي كان على وشك السقوط، قد وجد قارب النجاة لدى واحد من أولئك الذين يملكون صوتاً مسموعاً لدى الآخرين، فينجح بطريقة أو بأخرى في استدرار عطفه، ويقنعه برفع الهاتف للاتصال برئيسه الإداري الذي كان غاضباً عليه قبل هذا الاتصال، ثمّ تُغلق سمّاعة الهاتف فيعود الغاضب إلى سكّة الهدوء ويعلن صفحه عن المغضوب عليه.
حسناً هذه هي المرحلة الأولى، وهي المرحلة الأكثر أهميّة ولنطلق عليها تسمية النجاة من السنة اللهب، ثمّ تأتي المرحلة التالية وهي مرحلة الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، لأنّ المغضوب عليه يستغلّ علاقته بالمتوسّط له أحسن استغلال، فيقنع غاضب الأمس بمزاياه السحرية، التي تجعله جديراً بنيل رتبة وظيفية أعلى!.
وقد نظنّ أنّ الغاضب رأى في التوسّط الذي تمّ لصالح المغضوب عليه فرصة مناسبة لتحسين علاقته بذلك المتوسّط له، فبادر من تلقاء نفسه إلى تحسين موقعه الوظيفيّ، مرسلاً رسالة إلى الذي سانده لينظر إليه بعين الرضا لعله يعمل مستقبلاً على إيجاد موقع أفضل لذلك الذي تمت الوساطة لديه.
وربّما ساورنا الاعتقاد بأنّ المغضوب عليه ساحر يستطيع القفز فوق الحبال، وينتقل من ضفة إلى أخرى في الفراغ بطريقة يختطف بها إعجاب الآخرين الذين يسارعون للتصفيق له ثمّ يترجمون هذا التصفيق واقعاً عملياً بتحسين وضعه الوظيفيّ.
وإن كنّا نرى في هذه الفرضية الأخيرة التي تفسّر صعود الهابط بدلاً من استمرار هبوطه ضعفاً بيّناً.
وبصرف النظر عن الأسباب التي جعلت مستحقّ الهبوط ينجو من الهاوية كمرحلة أولى، ثمّ دفعته إلى موقع أفضل في المرحلة التالية، فإننا مصرّون على أنّ النتيجة لم تُمسّ في جوهرها، ولم يطرأ عليها أي تغيير أو تحوير، ونعني بها أنّه آيل للسقوط طال الزمن أم قصر.
لقد لاحت لهذا الشخص أكثر من فرصة كان بإمكانه استغلالها في تحسين وضعه الأخلاقيّ قبل كلّ شيء، وتغير الصورة المرسومة في أذهان الآخرين عنه، وهي صورة سطّرها السواد من البداية إلى النهاية، لكنّه فضّل الطرق الالتفافية على الطريق المستقيم، فكانت النتيجة أنّ الظروف ارتقت به إلى مكان أعلى ليس تكريماً له بل ليكون سقوطه سقوطاً مدوّياً يجعله غير قادر على النهوض مرة أخرى، وهو الذي اختطّ لنفسه هذا الطريق الخاطئ.