لم تفارقه الأحلام ولا ذكريات الأمس التي أمضاها في العمل ليلاًو نهاراً.. فقد كان مع رفاقه يظنون أنهم يبنون الوطن، فما التفتوا إلى أنفسهم ولا إلى قوافل العيال التي تنتصب وراءهم تتحرق على حاجات لا تتحقق لهم ولا ينالون سوى لقمة الطعام وقبض الريح!
مضت الأيام محمومة ودرويش ورفاقه غارقون في غمرة العمل لا يلهيهم عنه سوى أمزجة شخصية أخذت من وقتهم حيزاً اعتبروه استراحة لمحارب بعد أن أضنته الحروب!!. كان العمل والغفلة هما رفيقا العمر يشدّ أزرهما الإهمال وعدم التفكير بالنفس وبالمستقبل الغامض الآتي.
وعلى الوتيرة نفسها سارت الأيام بخطاها المستعجلة وهو ورفاقه غارقون بالأحلام يحسبون أنهم بها سوف يصنعون الغد : يوم يحصل كل مواطن على حقّه ببيت ٍ كريم وحياة هادئة آمنة يوفرهما لهم الغد الرخيّ الذي لابدّ أن يأتي بعد كلّ تلك العذابات والكفاح والآمال.
حظي درويش بفرص كثيرة لم يستثمرها إذ اعتبرها استغلالاً وخيانة لمبادئه وكفاحه.. فظلّ على الوتيرة نفسها يغلف حياته الفقر مثلما تغلفها الاستقامة والنزاهة وهو يحسب أنه بهما سيجابه الكون ولابدّ للغد أن يأتي حاملاً في راحتيه لهم الخلاص ونهاية العذاب.
الوقت يمرّ والزمن سريع الخطا ، وأصبح الظلّ يسبق صاحبه، وتتورم في الأنحاء طبقة من المنافقين والمستغلين وأثرياء الأيدي غير النظيفة.. لم يتزعزع إيمانه بأن ذلك طفرة عابرة ولابدّ أن يصح الصحيح يوماً ويعود للحياة وجهها الحقيقي، ولعرق العامل مكافأته المجزية.. لكن الحقيقة والحياة لم تكونا كذلك.. فالمنافقون والمستغلون ازدادوا غنى ودرويش ورفاقه ازدادوا فقراً!!
وظلت العجلة تدور بسرعة إذ سرقت منهم شبابهم، وما أملوه أو عملوا وكافحوا من أجله : غدا سراباً وطوته الأيام حتى لم تعد تبين ملامحه.. ومن سرقوا تعبه وعرقه وعرق رفاقه: صاروا سادة المجتمع لأنهم يملكون المال، فالناس لا يحبون ولا يحترمون إلا أصحاب الأموال كيفما كانت الطريقة التي يحصلون بها عليه!!
كان الزمان قد مضى وبيارق الأمس تلوح في الذاكرة فقط!! وغدت الحياة ومتطلباتها عبئاً غير قليل على الجميع .. فلم يعد الهم كيف يكون البناء بل كيف يأكلون ويسترون أنفسهم وعيالهم أمام البشر!!
انطوى ذلك الفجر الذي بحثوا عنه وعملوا من أجله طويلاً، وغدا حصاد الحياة: ذكرى كفاح ونضال كثير لم يوفر لهم مأوى ولا «حصناً» يقيهم شرّ تفاقم الحاجة، وبين يوم وليلة وجدوا أنفسهم حفاةً في مواجهة طريقٍ وعر صعب المسالك.. واستيقظ في أعماقهم نوع من الندم المذموم! ونظروا إلى الوراء ليجدوا أنفسهم آخر الصف، إذ تسابق البشر بغريزة بدائية : إلى السعي والكسب والاكتساب كيفما كان الأمر حتى ولو على حساب الضمير ودماء الناس!! آنذاك لم تعد الحسرة تفيد كما أن القناعة والرضا الداخلي لم يعودا يطمعان خبزاً ! ومع هذا فقد كان درويش وأمثاله قانعين بأن الذي فعلوه هو الصحيح، ،وأن الغلط الذي أوصل المستغلين وأصحاب الضمائر الفارغة إلى مكان مادي عالٍ: جعل الناس يحتقرونهم ضمنياً وينظرون إليهم ظاهرياً بالاحترام مادامت جيوبهم منفوخة!!
غدا بيت في مدينتهم الأصلية أو قريتهم: هو حلم عصيّ المنال.. فلا الرواتب أتاحت لدرويش وأمثاله أن يحققوا ذلك الحلم، ولا السلوك القويم سمح بذلك ،بينما كان جيرانهم ممن اغتنوا بأساليب مخجلة قد بنوا قصوراً فخمة، وعاشوا كالأمراء .. ومن تقاعدمن أولئك المتسلقين بقي الكثير من مكاسبه حتى لكأن الله فرض على الفقراء أن يتحملوا وزرهم وضمائرهم إلى الأبد كان درويش إذا التقى بعض زملائه الذين صاروا أثرياء: أحس أنهم يكرهونه هو وأمثاله لأنهم يذكرونهم بالماضي الفقير وبالوصمة التي على جباههم.. والأنكى من ذلك أنهم أمامه يشكون القلة وانعدام الوفاء عند الناس!! وكأنهم يتنصلون من الدماء التي مصوها وعاشوا على بؤسها وشقائها وهم رغم ذلك عاتبون على الجميع لأنهم لا يقدرون إخلاصهم وأعمالهم الخالدة حتى لكأنهم هم من اكتشف القمر!!
في غابات الذئاب لا مكان للأحلام والشعر والحسرات.. ولا موطئ قدم للآمال، فالأنياب هي سيدة الوقت وعنوانه.. والقصائد اللاهبة والأناشيد هي بعض مكملات اللوحة التي تؤطرها دماء من يجري استنزافهم دون حدود.. والحقول الخضراء التي تغطي الأرض : هي باحة الحلم والأمل الذي لا يأتي!!
فالفجر لا يحمل في تلاويحه الخلاص.. والكدّ والتعب والحياة النظيفة لا تطعم خبزاً، إذ إنها وسام رفيع لا يصرف في سوق الحاجة!! وهي لا تردّ ما مضى ولا تبني بيوتاً تستر آخرة الشعراء!!
في حضرة اليقظة يكون كل شيء قد مضى وحمل الحالمون وزر الفجاءة المريرة وحملوها لأبنائهم الذين لم يؤمنوا لهم مستقبلهم : فالأنفة والنقاء يصبحان طعاماً في غابة الذئاب!!
في ذاكرة التاريخ خزان لا ينضب من خيبات الحالمين.. ومنذ اكتشف الإنسان السكين لدرء خطر الضاريات كان يشحذها في الآن نفسه لأخيه الإنسان ويتفنن بعدها في ابتكار أدوات الحرب من أجل القتل والخراب!!
في حضرة الشعر هذا المولود المصفى لا مكان إلا للأمل والسراب.. والأرض اليباب لا تنتج إلا يباباً وحسرة قبل الغروب والقصيدة التي كانت ترجُّ الأرض لانت حتى غدت دهشة واستغراباً معلنة نهاية الحلم وروعة الآمال!
ذات صباح وفي مشفى حكومي انتصر المرض على إرادة وصدر درويش فعرف أخيراً أنه ينازع من أجل البقاء ورفرفت فوقه وفي ذاكرته سنوات عمره التعيس وآماله التي ظلت حتى رحيله أحلاماً!!
وترك خلفه عيالاً لم يؤمن لهم ما يقيهم غوائل الأيام ينتظرون أن يصحّ الصحيح فتؤمن حياتهم ويغيب ذلك السراب!!