|
|
مرافىء الذاكرة...بين الخيال العلمي والفنّ آراء - كنت في عمّان للقاء تلفزيوني حول تجربتي في الخيال العلمي، حين لمحت في إحدى واجهات المكتبات، كتابك ( في الخيال العلمي) الصادر عن دار ابن رشد في بيروت.. تلقفته بحرص ليكون رفيقي في الطائرة في رحلة العودة، وفوجئت أنه يتحدّث عني، عن روايتي قاهر الزمن، و( رقم /4/ يأمركم) .. وفي معرض الكتاب في القاهرة أخذت أتابع مؤلفاتك، لأكتشف أنك واحد من المخلصين للخيال العلمي.. ولد نهاد شريف في عام (1930) ويحمل إجازة في التاريخ، والده الفنان التشكيلي (منير شريف) الذي تزين بعض رسومه وأعماله التشكيلية بعض الأماكن في مصر.. وهناك صورة بشكل لوحة كبيرة وضعت في متحف القائد الراحل جمال عبد الناصر، اعتبرت إحدى الصور المميّزة لعبد الناصر.. بدأ نهاد شريف بكتابة الخيال العلمي، محاولاً نشر قصصه القصيرة في بعض المجلات الأدبية، وصفحات الأدب في الصحف، وحين قرأ له يوسف السباعي، أخذ يشجعه على النشر.. وكان الراعي الأول لإنتاجه الذي بدأ مع (قاهر الزمن) روايته الأولى، ثم في سلسلة من المجموعات القصصية والروايات الأخرى.. وتحوّلت روايته ( قاهر الزمن ) فيما بعد إلى فيلم سينمائي من إخراج كمال الشيخ وبطولة نور الشريف ..وكان أوّل فيلم سينمائي عربي جادّ من الخيال العلمي.. يتميّز أدب نهاد شريف بالنزعة الإنسانيّة التي تحكي عن الإنسان وعذاباته وهمومه ومشكلاته المستقبليّة .. فهو يتحدّث عن مشاكل البيئة والتلوّث وتخزين السلاح النووي وخطورة ذلك على الحياة .. كما تتداخل عوالمه مع قوى الإنسان الخفيّة والحاسّة السادسة ، والبحث عن عوالم أخرى في الكون من حولنا .. عوالم من الكائنات العاقلة الّتي تحكي عن السلام والخير .. تستوطن الكواكب البعيدة وتأتي في زيارات متتابعة للأرض للّقاء مع البشر.. وفي روايته (سكان العالم الثاني) ، يتحدّث عن عالم تنتشر فيه المجمّعات الصناعيّة في أعماق المحيط حيث يستفيد الناس ، الّذي يعيشون فيها ، من كنوز البحار ويبنون مجتمعاً متماسكاً لا بغضاء فيه ولا أحقاد .. وقد تمكّنوا من تطوير إمكاناتهم العلميّة إلى حدّ جعلهم يقاومون الكوارث والأحداث الفجائيّة .. ويزاوج نهاد شريف بين استقبال الإنسان لزيارات من عوالم أخرى من كواكب بعيدة وبين رحلات فضائيّة متطوّرة يقوم بها البشر إلى تلك الكواكب.. ففي ثلاثيته ( ابن النجوم) يحكي عن زواج بين أنثى بشريّة وبين كائن عاقل من كوكب بعيد ، حيث تلد الأنثى صبيّاً يجمع بين صفات سكّان الكوكب البعيد و صفات البشر في مزاوجة جعلت منه عنصراً متفوّقاً.. وبعد أن يكبر الصبيّ يرحل من الأرض للبحث عن والده .. ونهاد شريف رجل رقيق، تشعر بالانجذاب نحوه، لأدبه ولباقته وسعة معرفته.. قضينا معاً وقتاً طويلاً، قبل أن نجول على بعض الكتّاب والإعلاميين ومن بينهم ( محمد سلماوي) الكاتب المسرحي، والإعلامي المعروف في صحيفة الأهرام ( وهو يشغل حاليّاً منصب : رئيس اتّحاد كتّاب مصر ).. ومحمد سلماوي ، هو الذي ذهب إلى السويد مع ابنتيّ نجيب محفوظ، لاستلام جائزة نوبل، بدلاً من نجيب محفوظ الذي لم يغادر مصر طوال حياته.. ولم ير حتى فوزه بجائزة نوبل مناسبة للخروج منها.. وخاصة أنه رجل لا يحتمل السفر والبعاد عن الأرض التي استنشق هواءها وتغلغل أدبه في حواريها وناسها بكل عمق ومهارة.. قلت لمحمد سلماوي: - أنتم تقاومون التطبيع مع (إسرائيل) بكل قوة.. وربما لا يوجد سوى عدد قليل ممن انحرف عن هذا المسار، وبدأ يكتب عن السلام الموعود والمستقبل المزهر بالأحلام.. قال: - مع الأسف، انحرف البعض وهم كما قلت عدد قليل، ولكن مصر حتى بأبسط أناسها، يرفضون العلاقات مع عدوّ عانى منه الجميع، قتل وشرّد واحتلّ الأرض وفرض هيمنته بالقوة وبمساعدة دول كبرىّ.. أهداني محمد سلماوي بعض مسرحياته مثل : ( سالومي) ( اثنين في البلاّعة).. وبدأنا نحكي عن الأدب العربي وإرهاصاته ومشكلات نقاده.. ومشكلات نشر الكتب ودور النشر والرقابة.. صمّم نهاد شريف على مرافقتي إلى مكتب (عبد الهادي البكّار) في سفارة الإمارات.. وكنت أحمل له رسالة من أخيه (فهمي) في دمشق.. استقبلنا باحتفاليّة، ولعلع صوته يحكي عن العروبة، والحصار والحلم.. رجل تشبّع بالفكر القومي، واتخذه نبراساً، واعتبر نفسه واحداً من الذين ينتمون إلى الأرض العربيّة التي تصوّرها بلا حدود.. قال لي: قسّمت الوطن العربي إلى أربعة أقسام : الجزيرة العربية وتضم كل البلدان عدا بلاد الشام والعراق، التي تشكل القسم الثاني بذاتها، أما القسم الثالث فهو وادي النيل ( مصر والسودان) والرابع هو بلدان المغرب العربي ومن بينها ليبيا.. هذه التقسيمات تعتمد على طبيعة الإنسان فيها وعاداته وتقاليده في التفاصيل.. رغم أن لدينا كل ما هو مشترك من (لغة و تاريخ وجغرافيا ودين واساطير وسحن ..) وتابع يقول بحماس: - أحلم بيوم أرى فيه العرب يشكلون (فيدرالية) توظف سكانها ومالها في التطور.. كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، الذي تختلف دوله عنّا كثيراً، دول كانت متخاصمة متقاتلة.. بينها حدود ودماء وغزوات واحتلال.. أصبحت كتلة اقتصادية سياسية هائلة.. ويرنّ الهاتف إلى جانبه فيرفع السمّاعة ليردّ على المتكلّم وكان الملحّن الكبير بليغ حمدي الذي كان يمّر بمرحلة صعبة من مراحل حياته ، كان منكسراً وهو يتحدّث على الجانب الآخر من الخطّ فيقول له عبد الهادي صارخاً: بليغ أنت فنان كبير، عد إلى فنك إلى جمهورك إلى ألحانك، اترك اليأس والتجارب المريرة.. عد إلينا يا بليغ، أرجوك.. لا تتكلّم بمثل هذا اليأس والانهيار القاتل.. ويضع السماعة وتدمع عيناه، فيؤثر بنا انفعاله.. أنا ونهاد، فيقول بحزن: بليغ في أسوأ حالات يأسه وقنوطه وحزنه.. وبالفعل، مات ذلك الملحن الكبير بعد أسابيع ، مقهوراً حزيناً..
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
