تعويذته/ تعويذتهم، هي الأنشودة التي تغنّى بها الشبان الأمريكيون الذين انجرفوا في هاوية الحرب.. فتمّت التضحية بهم.
أنشودتهم «تتحدّث عن الشجاعة، وعن المرايا، عن الرغبة وعن الحب» أشياء تأتي بمقام تلك التعويذة.
ومع هذا يُخيّل إليك أن الشعر ربما جاء محمّلاً تلك المهمة «كتعويذة».. الشعر لديهم، أبناء أمريكا اللاتينية،
طبقة المثقفين، لاسيما الشعراء، يلعب هذه الدور.. لطالما كان هو البطل المتواري طوال سير خط رواية «تعويذة» التي كتبها روبرتو بولانيو عام 1998، بعد مضي ثلاثين عاماً على مذبحة «تلاتيلولكو» عام 1968. مذبحة قامت بها القوات الحكومية ضد المتظاهرين من طلاب ومدنيين في حي تلاتيلولكو في العاصمة مكسيكو.
المذبحة التي يوظّفها بولانيو نقطة زمنية فاصلة.. تعود إليها بطلة عمله المدعوة أوكسيليو لاكاتور، الشاعرة المتصعلكة القادمة من الأورغواي لتحيا في أرجاء العاصمة مكسيكو، عشقها الأكبر، متشردةً تتقاذفها صدف ومغامرات عيشها ما بين مجموعة من الشعراء الشباب. تسرد علاقتها بهم وكذلك علاقتها بكبار شعراء المكسيك وأمريكا اللاتينية.
دائماً ما تعود إلى تلك الذكرى المشؤومة، كنقطة علّام خطّت ما تلاها من مفترقات أحداث سياسية وربما ثقافية، شعرية، فنية، وإبداعية، انغرست في عقل تلك الطبقة المثقفة، مشكّلةً هذيانات لاواعية أو واعية في بنية نصوصهم الإبداعية.. و«تعويذة» بولانيو واحدة منها.
على هذا النحو نجد البطلة أوكسيليو وكما لو أنها تحيا فيضاً من صراعات داخلية.. غالباً ما تعيدها إلى اللحظة التي شاهدت فيها تلك المذبحة وكيف نجت منها بأعجوبة، بأن جعلت نفسها حبيسة حمامات الحرم الجامعي، المكان المفترض للمذبحة، أياماً عديدة.
تتساءل: «كأن الزمن يتمزّق ويجري في اتجاهات متعددة في وقت واحد».. كأن بولانيو استخدم توصيفه هذا كنوع من تقنية زمنية يراوغ من خلالها زمن عمله.. فيُشاغل قارئه بانشطارات زمنية متعددة لكنها تجتمع في النهاية إلى نقطة صاعدة واحدة.
تنشغل الرواية بتقديم ما يشبه السير المختزلة أو المصغرة للكثير من مشاهير المبدعين في أميركا اللاتينية، يأتي بها بولانيو كنوع من الاحتفاء بهم.. يستخدم سير المشاهير لديهم بحرية لافتة وكأنه أراد الإيماء أن لا فرق بين أبناء هذه البلدان المنتمية إلى أمريكا اللاتينية.. هويتهم واحدة لا تلغيها تقسيمات السياسة.. أو لعلها، كما رأى مترجم العمل، طريقته في التأكيد على فكرة المنفى.. غالبيتهم عاشوا متنقلين بين بلدان ليست بلادهم.
منهم: خوانا دي أيباربورو «شاعرة أورغوائية»، ليليان سيرباس: «شاعرة سلفادورية»، ريميديوس فارو أورانجا: «رسامة كتالونية أسبانية مكسيكية»، ليون فيليبي: «شاعر أسباني»، وغيرهم الكثير بحيث يمكن للقارئ اعتبار هذا العمل نوعاً من الانطولوجيا لمبدعي أمريكا الجنوبية.. انطولوجيا غير مباشرة.
ينغرس عمل «تعويذة» في حديثٍ يروي حكاية الجيل الشاب من شعراء المكسيك.. ذاك الجيل الذي أراد بناءً شعرياً حديثاً يقوم على ردم الجيل الذي سبقه.
بهدوء ورويّة ترصد عينا البطلة طموحهم فتلقّب نفسها بأم شعراء المكسيك.. ومن بينهم المدعو «أورتورو بيلانو» الشخصية التي تأتي معادلاً سردياً للكاتب بولانيو.. لعبة فنية يوظّفها هو نفسه كشاهدٍ على أجواء تلك المرحلة التي أراد ذووها التجديد، ومن بينهم بولانيو الذي انتمى إلى مدرسة مغايرة لمدرسة الواقعية السحرية.
لعل الروائي يموّه بحديثه الأدبي الثقافي.. يبطن غاياته ويغلّفها دون أن تخطئ بوصلته اتجاهها السياسي. شغوف هو بملاحقة أحداث عاصرها، يتحدث عنها بنعومة الشعر ومتانة مقصده. فيطمر انتقاداته السياسية بقشرة الفني، الشعري، الإبداعي.
lamisali25@yahoo.com