تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تدجين الأصالة....التقدم التقني وشروط الواقع الاجتماعي

ملحق ثقافي
2012/12/4
حسن عبد الله الخلف:يقوم البناء الفني لرواية برج لينا للأديب الرقي تركي محمد رمضان على مبدأ التناوب بين مشهدين: أولهما عمليات بناء السد الجارية بإنتظام ودون توقف والتي باشر بها الخبراء الروس،

مع المهندسين والعمال السوريين، والثاني ما يحدث من تغييرات في القرية «جعبر» التي تقع بالقرب من مكان بناء السد، وتتحدث الرواية في أثناء ذلك عما يدور من علاقات إنسانية بين كل أفراد المجموعة التي تخلقها ظروف العمل للعيش في مكان واحد.‏

تقع الرواية في ثلاثة وأربعين فصلاً، جزء مخصص لبناء السد والآخر لما يجري في القرية من أحداث وعلاقات إنسانية محكومة بشرطها البيئي والاجتماعي. وليست رواية برج لينا هي الوحيدة التي خصصت للحديث عن بناء سد الفرات قرب مدينة الطبقة السورية التي تحول اسمها الى الثورة، فقد سبقتها روايات عديدة منها رواية فارس زرزور «آن له أن ينصاع» ورواية محمد إبراهيم العلي «التحول الكبير» ورواية «النهر» لجان ألكسان ورواية «المغمورون» لشيخ الرواية السورية الراحل عبد السلام العجيلي، ولكنها الرواية الأولى التي تحدثت عن نتائج هذا البناء من منظور مختلف.‏

فإذا كانت رواية فارس زرزور قد مجدّت بناء السد، بناءً على المنطلقات الفكرية لصاحبها الذي آمن بالنظرية الاشتراكية ووقف نصيراً لها مع ما يحمله ذلك من تمجيد لما حققه السوريون في تغير البيئة الجغرافية والاجتماعية في المنطقة التي بني فيها السد، وكذلك تشجيع التعاونيات في رواية النهر وتناوله قرية الكسرة بصفتها أقوى الحركات. وإذا كانت رواية المغمورون لعبد السلام العجيلي قد وقعت في رومانسية لا طائل ورائها، فإن الرواية الحالية تطرح المسألة من منطق مختلف بأنها تشير الى الحيف الذي وقع على البيئة الاجتماعية من تدمير، فقد نقل السكان من أرضهم التي عاشوا فيها قروناً طويلة التي كانت هي الحيز الذي حوى ذكريات طفولتهم إلى منطقة بعيدة أخرى في حين جلب أناس آخرون للعمل في السد والمشروعات الزراعية التي أقيمت بعد ذلك.‏

والشخصيتان الرئيسيتان فلاديمير سائق الكراكة الروسي والشاب الذي يقترب من الثلاثين وزيد الشاب السوري الذي يتدرب على الكراكة على يد المعلم فلاديمير. وخلال هذا العمل تتنامى روابط الصداقة بينهما على أساس إنهما يرميان الى هدف واحد وهو إكمال بناء السد، على الرغم أن فلاديمير بقي ينادي زيداً بمحمد، على أساس أن الاسم الشائع في البلاد الإسلامية والدينية هو محمد الذي يشير الى الرسول «ص».‏

وتغص الرواية بالأحداث والتقاليد الاجتماعية التي تشير الى عنفوان أهل تلك المنطقة وصبرهم من ذلك متمثلاً ما ينقله الكاتب عن أبناء تلك القرية حينما داهمها الاحتلال الفرنسي، فجرت معركة غير متكافئة بين رجال القرية وشبانها. وحين تقدم المنتصرون نحو القرية اتجهت كل نساء القرية وشاباتها وقذفن بأنفسهن في نهر الفرات درءاً للعار الذي قد يلحق بهن.‏

ومن تلك التقاليد أيضاً ما يرتبط بفنون الشعوذة والدجل وقراءة الغيب، وهي الفنون التي تتنامى وتترعرع في البيئات التي يكون فيها الوعي بسيطاً وساذجاْ، والتي لا يحمل أبناؤها مقومات الثقافة العلمية اللازمة لإثبات بطلان تلك الحجج. وقد جرى تدمير هذه الأمور وما يرتبط بها مع تغيير الشروط الاجتماعية والثقافية في تلك البيئة.‏

ولكن المشكلة ليست هنا بل في التدمير الذي لحق البنية الاجتماعية المتماسكة التي استمرت قروناً طويلة، والتي حفظت لإنسان تلك المنطقة كرامته وتوازنه الداخلي. فعلى امتداد القرون الماضية كانت تلك العادات والتقاليد «بعجرها وبجرها» تؤمن المساواة بين أفراد المجتمع، وتؤمن أيضاً الشعور بالإخاء والتعاون فيما بينهم. ولكن هذه التغيرات التي جرت في تلك الفترة السيئة خلقت فوارق مهمة بين البشر على مدى سنوات معدودة وهو يدل على مدى الرعب الذي يسببه التقدم العلمي ومدى المشكلات التي يثيرها دخول الآلة في حياة الإنسان. وإن القارئ يتساءل بعد نهاية الرواية: أكان بناء السد في صالح أبناء تلك المنطقة أم لا؟‏

والحقيقة أن الرواية يبدو أقرب إلى التسليم بالنفي وذلك لما شهدته تلك البيئة من مشاكل لا عهد لها بها من قبل تلك المشاكل التي سببها قيام السد وبناء مدينة حديثة حوله.‏

وإذا أردنا أن نجد تشبيهاً لهذه الحالة، فإننا سنستدعي على الفور فيلم «سبع سنوات في التيبت» للممثل الشهير «براد بت»؛ ففي ذلك الفيلم نجد التدمير الفعلي لحضارة التيبت المسالمة والتي لم تكن لديها من أسباب القوة العسكرية ما يمكنها من الدفاع عن نفسها في مواجهة إحدى الدول المجاورة. نقول هذا على الرغم من إدراكنا للفارق الشاسع بين الأمرين في الظاهرة، ولكن الحقيقة هي أن كلتا الحالتين متماثلتين في النتائج.‏

فقد جرى تدمير البيئة الاجتماعية المسالمة دون محاولة المواءمة بين متطلبات التقدم التقني وشروط الواقع الاجتماعي.‏

وتتحدث الرواية عن علاقة الإنسان بالحيوان ولاسيما الخيول التي تحتل مكاناً في المخيلة العربية لما لها من ارتباط بالتراث العربي. ولكن الروائي يشير إلى ما لحق بإنسان تلك المنطقة من جراء بناء السد، وذلك حينما يتحول الطقس اليومي لوالد البطل الذي يأخذ فرسه الأصيلة لتشرب من نهر الفرات في الماضي إلى تدجينها لتصبح حصاناً لبائع جوال بعد أن تغيرت البيئة والطقوس التي كانت تجري فيها.‏

بقي علينا في النهاية أن نتحدث عن مسألة مهمة وهي اللغة المستخدمة في الحوار الروائي. لقد انحاز الروائي انحيازاً تاماً إلى جانب اللغة العامية التي شوهت الرسالة التي حاول الروائي إيصالها الى المتلقي، وأفقدت البناء الروائي الكثير من تماسكه، كما أفقدت الرواية عذوبة اللغة التي يتوقع القارئ أو المتلقي عموماً أن يجدها في مثل هذا العمل واختيار اللغة العامية أداة للحوار الروائي أمر يخص الروائي، وقد استخدمه كل الروائيين العرب تقريباً ولكن المشكلة هنا أن هذا الحوار هو الذي يطغى على الرواية فتتحول الى ما يشبه المسرحية أو يمكن أن نطلق عليه «مسرحة البناء الروائي» وهو حوار جرى بعامية بعيدة عن جوهر الفصحى ورونقها.‏

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن محوراً من الرواية فاز بجائزة البتاني للقصة القصيرة، بينما فاز محور آخر بجائزة اتحاد الكتاب العرب، ما يؤكد أن الرواية أشبه بقصص قصيرة مكتملة، يجمعها المكان هو «الطبقة»، والحدث «بناء السد والغمر» حيث تتقاطع فيهما كافة الشخصيات.‏‏

الرواية من إصدار وزارة الثقافة، وتقع في 272 صفحة من القطع الكبير.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية