ثمة رغبة في نسف هذه المنظومات التي باتت مؤصلة في بنائنا الفكري، التدخل في حياة الآخر، إلغاء الآخر الذي لا يشبهنا، إطلاق الأحكام على الآخر، التعامل مع المعطى النقدي بطريقة فردية مرضية... هذا التراكم الكمي لهذه المستجدات من البنى الفكرية المعاصرة جعل الإنسان يئن تحت ضغط أعباء سيكولوجية فكرية، فرفض الآخر والخوف من الاختلاف هو أصل العنف الذي تغذيه أمية عقلية يؤلب الأفراد والجماعات والثقافات بعضها على بعض وبالتالي هذا التأليب يؤدي إلى انطواء على الذات وعدوانية مفرطة إضافة إلى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتأزم.
فماذا يحصل للفرد الذي اعتاد رؤية العنف كل صباح على شاشات التلفزة ونشرات الأخبار فلم يعد يتحرك وكأن اعتياد مظاهر العنف خلق لديه مناعة فبات يتقبله وكأنه سلوك طبيعي دون أن تتحرك فيه أي نوازع إنسانية.
إن هذا التحول الكيفي في بنية العقل العربي صوب العنف أثر بصورة خاصة في العلاقات الاجتماعية، فأنا لست موجودة إلا بعلاقة مع الآخر، فكيف تتم صياغة هذا الإنسان بمنهج معرفة جديد ونحن نقدم له يومياً وجبات منكهة بالعنف على شاشات الفضائيات، فلم تعد تكفينا هذه النشرات الإخبارية الملأى بأحداث القتل والتدمير وسحق آدمية الإنسان بل أعددنا له برامج ومسلسلات تلفزيونية تغزو عقله بأفكار العولمة وتعمل على تسطيحه وتهميشه وشحنه بطاقات عنف جديدة، فبهذا يتحول هذا الإنسان إلى مجرد متلق للأفكار التي نريده أن يعتنقها.
فهناك مسلسلات تشجع الانحلال الأخلاقي بفهم خاطئ للحرية الشخصية، وهناك برامج تعمل على الشكل الخارجي للإنسان بتركيزها على آخر صيحات التجميل متناسية الجواني نهائياً.
وهناك مسلسلات تتحدث عن انحراف أحد الوالدين ونتيجة هذا الواقع بضغوطاته لا يجد الأبناء مخرجاً لهم سوى الهروب إلى الخارج حيث رفاق السوء و و والخ..
إنها معادلة صعبة كيف تدغدغ عواطف المراهق ونقنعه بهذه المعطيات وبعد ذلك نعاقبه إن تعامل بها! أليست هذه هي الازدواجية بعينها؟
إن استقراء هذا الواقع يستدعي من الأهل التدقيق في اختيار المسلسلات التي تعرض على الفضائيات والتي لا تتعارض مع المنظومة الأخلاقية لمجتمعنا وللقائمين على هذه الصناعة، أقول شكراً لطرح الرؤى ووضع اليد على الجوانب المعتمة بكل تعقيداتها ولكن أراني أقف بحذر، فالمراهق أمام هذا الكم من العلاقات المريضة لا يمتلك الحصانة النفسية التي تجعله لا يقتدي بهذه النماذج من الشخوص التي تتحرك أمامه وتحرك خياله.
هناك جوانب إيجابية مشرقة في مجتمعنا، هناك الأسر التي يسود فيها الاحترام المتبادل بين الوالدين وروح الديمقراطية بين الجميع، هناك الأب القدوة لأبنائه وهناك الأم التي ترى وتهتم وتتابع أبناءها برقابة، عنوانها الحب ومرجعيتهم في ذلك منظومة أخلاقية قيمة، فلماذا لا تدخل هذه النماذج الجميلة الأطروحات الدرامية ويتم تسليط الضوء على هذه القيم الإيجابية؟
إن توصيف الراهن يجب أن يطول الواقع الإيجابي كما يطول الواقع السلبي.
أما الدور الثاني فهو دور المدرسة. إن كثيراً من المدارس في الغرب أدخلت إلى مناهجها المدرسية مادة تعلم الطلاب السلامة النفسية وكيفية التعامل مع الحياة ومواجهة صعوباتها.
السؤال الآن: من يحمي أبناءنا من هذا العنف المبثوث بأشكاله جميعها ومن يعيد إلى أبنائنا شفافيتهم وإنسانيتهم وإحساسهم بالآخر وآلامه؟
لقد بيّن الطب النفسي الوقائي ضرورة الابتعاد عن كل مظاهر العنف لأنه سلوك غير إنساني ومع تكراره سيجعل الفرد المتلقي يعتاده بمصاحبة شعور لا مبال تجاه الأحداث حتى يفقد الحس الإنساني تماماً ويتجرد من إنسانيته.
أخيراً يقول الفيلسوف كارل برمبر: ترتكز الحضارة أساساً على ثقافة العنف.
hunada@housri.com